11:55 صباحًا / 27 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

على أوتار القيثارة الحزينة: قراءة في شعر الدكتور عناد جابر ، بقلم: رانية مرجية

على أوتار القيثارة الحزينة: قراءة في شعر الدكتور عناد جابر ، بقلم: رانية مرجية

في زمنٍ تتكاثر فيه الضوضاء وتبهت الأصوات الحقيقية، يأتي صوت الدكتور عناد جابر كوميضٍ في عتمة الوعي، ليعيد إلى القصيدة العربية نبلها وصدقها، ويعيد إلى اللغة رسالتها الأولى: أن تكون مرآةً للإنسان في لحظات ضعفه وتمرّده معًا.


في قصيدته “على أوتار قيثاري الحزين”، لا يكتب الشاعر من خارج الوجع، بل من صميمه. لا يصف الحزن، بل يجسّده نغمةً على وترٍ مشدود بين ذاكرةٍ مثخنةٍ بالحنين وواقعٍ غارقٍ في العبث.

  1. العزف على وتر الكينونة

منذ البيت الأول:

على أوتار قيثاري الحزينِ / سأعزف لوثةَ الزّمنِ اللعينِ

يضعنا الدكتور جابر أمام ما يمكن تسميته ب ميتافيزيقا الألم. القيثارة ليست مجرد أداة، بل هي امتدادٌ للذات، ومرآةٌ للروح التي تنزف نغمًا. والمفردة “لوثه” تنطوي على عمقٍ دلاليٍّ كثيف، إذ تحوّل الزمن من مفهومٍ حيادي إلى كيانٍ مريضٍ ملوّث، يتغذّى على نقاء الإنسان.


هنا، تتجاوز القصيدة حدّ البوح الشخصي لتلامس الوجع الجمعي، فكل قلبٍ خُذل من الزمن يجد صداه في هذا العزف الحزين.

  1. الدمع كمعادلٍ موضوعي للذاكرة

وأذرف حسرتي دمعًا هتونًا / على ما فاتَ من حلوِ السنينِ

لا يبكي الشاعر الماضي، بل يبكي المعنى الذي اندثر مع مرور السنين. هذا الدمع الهتون ليس ضعفًا، بل طقس تطهيرٍ داخلي، يشبه طقوس الغفران القديمة، إذ يتحوّل الحزن إلى طاقةٍ جمالية.


في هذا البيت، يتجلّى الزمن النفسي الذي يتقدّم في الروح لا في التقويم، حيث كل دمعة هي لحظة إدراكٍ للذات، وكل حسرةٍ هي وعيٌ بالخسارة الكبرى: خسارة البراءة الأولى.

  1. مفارقة العبث والوجود

فدنيانا غدتْ في كفّ قردٍ / يعفرتنا بلا رفقٍ ولينِ

هنا تبلغ القصيدة ذروتها الدرامية والرمزية. القرد، في المخيال الجمعي، هو الكائن الذي يقلّد دون وعي، يعبث دون قصد، ويضحك في لحظة الخراب.


بهذه الصورة الكاريكاتورية الكثيفة، يصوغ الدكتور جابر مانيفستو وجوديًا ساخرًا، يختصر فيه انهيار القيم وتحكم العبث بمصير الإنسان.


فالبيت لا يرسم مشهدًا شعريًا فحسب، بل يقدّم تشخيصًا حضاريًا لواقعٍ فقد منطقه، وصار يُدار من قِبَل قوى اللاعقل واللامسؤولية.

  1. جدلية اللغة والفكر

تتسم لغة الدكتور عناد جابر بقدرتها على الجمع بين الفصاحة التراثية والوعي الحداثي. فهي لغةٌ تتنفّس من رئة الشعر العربي الأصيل، لكنها تحمل روح العصر وأزماته.


فالألفاظ كأنها أحجار كريمة مصقولة، تحمل لمعان البلاغة ودفء التجربة، فيما تتخذ الصور بعدًا فلسفيًا يجعل القارئ يقرأ النص بعقله وقلبه في آنٍ واحد.


إنه شعرٌ يذكّرنا بأن الكلمة، حين تخرج من صميم الوعي، تصبح مقاومةً ضد التفاهة، وأن الجمال هو أرقى أشكال الاحتجاج.

  1. بين الحزن والنبوءة

القصيدة لا تنتهي بالحزن، بل تبدأ منه. فحزن الشاعر ليس انكسارًا، بل وعيًا مبكرًا بانحدار العالم نحو السطحية والعبث. ومن هذا الوعي يولد الأمل الخفي في إمكانية الخلاص عبر الفن.
إن العزف على قيثارة الحزن هو محاولة لاستعادة النغمة الأولى في الكون، حين كان للإنسان معنى، وللزمن رحمة.

خاتمة: عناد جابر… حين يتكلّم الشعر بعقل الفيلسوف وقلب العاشق

في زمنٍ اختلط فيه الصخب بالحقيقة، يقدّم الدكتور عناد جابر نموذجًا للشاعر المفكّر، الذي يكتب لا ليُدهِش، بل ليُوقِظ.
قصيدته هذه ليست بكاءً على الأطلال، بل صرخة وعيٍ راقٍ، تحوّل الألم إلى معرفة، والقصيدة إلى مرآةٍ تعكس ملامح إنسانٍ يبحث عن معنى في عالمٍ فقد ملامحه.


على أوتار قيثارته الحزينة، يعزف الدكتور جابر لحن الإنسان في مواجهة عبثية الوجود — لحنًا سيبقى صداه طويلًا، ما دام في القلب نبضٌ، وفي اللغة بريقٌ من ضوءٍ وحنين.

شاهد أيضاً

مجموعة الصين للإعلام تطلق فعاليات الحوار العالمي حول الابتكار والانفتاح والتنمية المشتركة

مجموعة الصين للإعلام تطلق فعاليات الحوار العالمي حول الابتكار والانفتاح والتنمية المشتركة

شفا – أطلقت مجموعة الصين للإعلام، الجمعة، في واشنطن فعاليات الحوار العالمي حول الابتكار والانفتاح …