12:48 مساءً / 26 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

حينما كانت الأرض تنبت الناس ، لوحة الفنان محمد الدغليس ، بقلم : د. وليد العريض

حينما كانت الأرض تنبت الناس ، لوحة الفنان محمد الدغليس ، بقلم : د. وليد العريض

حينما كانت الأرض تنبت الناس ، لوحة الفنان محمد الدغليس ، بقلم : د. وليد العريض

وبداياتي:


من قلب اللوحة التي تشبه صلاةً على تراب الذاكرة، تنبعث رائحةُ الطفولة حين كانت الأرض أمًّا، والناس إخوةً في الندى والعرق والنية الطيبة. هناك، قبل أن يُعلّمنا التمدّن كيف نغترب عن أنفسنا، كان الدفءُ يسكن الأشياء الصغيرة: رغيفٌ يُقتسم، نظرةُ محبة، وصوتُ مؤذنٍ يختلط بضحك الأطفال بين السنابل. هي ليست لوحةً تُرى بالعين، بل تُحسُّ بالقلب الذي ما زال يحنُّ إلى بساطته الأولى.

حين كانت الأرض تُنبت الناس

لم تكن الأرض في تلك الأيام تُعطي القمح فقط، كانت تُنبت الناس أيضًا؛ رجالًا بوجوهٍ من شمسٍ، ونساءً بأيديٍ من طينٍ طاهر، وأطفالًا يركضون في الحقول كأنهم أدعيةٌ تتحرّك على التراب.

في الريف القديم، لم يكن الحبّ كلمةً تُقال، بل عرقٌ على الجبين، وماءٌ يُسقى للجار قبل النبتة. كانت البيوت متقاربة كصدور الأمهات، وكان الجيران يعرفون أن أبوابهم مفتوحة دائمًا بالنية قبل المفتاح.

هناك، لم يكن الفقر مذلّة، بل امتحانًا في الكرامة والصبر. كان الناس يعملون في الشمس كأنهم يُصلّون، ويقتسمون الخبز دون سؤالٍ عن الكمية أو النصيب. في عيونهم إيمانٌ عميقٌ بأن الأرضَ لا تخون، وأن التراب الذي يُبلّلونه بعرقهم، سيعيد إليهم يومًا وجه الوطن حرًّا.

كل شيءٍ كان صادقًا: الضحكة، التعب، الحُبّ، وحتى الصمت في آخر النهار. حين يجلسون على عتبة البيت، كان الهدوء يُشبه ترتيلةً تُقال بعد صلاةٍ طويلة. الهواء يحمل رائحة الحنطة والودّ، والمساء يأتي كعناقٍ بعد يومٍ طويلٍ من الكدّ، لا كغربةٍ جديدةٍ كما هو الآن.

كانت الحياة عسيرةً قليلًا… لكنها مليئةٌ بما لا يُشترى: الرضا، واليقين، ونقاء النفس. كان كلّ تعبٍ يحمل في آخره راحة، وكلّ جرحٍ يُغسل بماء النية الطيبة، وكلّ بيتٍ، مهما كان فقيرًا، يفيض دفئًا يكفي قريةً بأكملها.


ثم جاء التمدّن، فكسَر الإيقاع. صارت الشوارع أعرض… والقلوب أضيق. صارت البيوت أجمل… والأرواح أبعد. لم نعد نعرف أسماء جيراننا، ولا نعرف طعم التعب الذي يجعل للنوم معنى. كأننا، في بحثنا عن الرفاه، أضعنا نعمة البساطة التي كانت تُحرّرنا من الخوف.

وخاتمتي:


ما زالت تلك القرية تعيش فينا، كأغنيةٍ قديمةٍ نحاول تذكّرها كلّما اشتدّ الزحام في أرواحنا. نشتاق إلى أرضٍ كنّا نسير فيها حفاةً لكنّنا كنا نملك العالم، وإلى وجوهٍ بسيطةٍ تُضيء من الداخل بلا مكياجٍ ولا أقنعة. ربما غابت الحقول، لكن ظلّ الحنين يزرعنا نحن في الأرض. فالأرض، يا صديقي، لا تموت… تموت المدن حين تنسى أن الإنسانَ كان يومًا ترابًا يبتسم.

  • – د. وليد العريض – مؤرخ، أديب، شاعر، وكاتب صحفي

شاهد أيضاً

الجبهة العربية الفلسطينية : في اليوم الوطني للمرأة الفلسطينية: نساؤنا عنوان الصمود ووجه الوطن في زمن الإبادة

شفا – بمناسبة اليوم الوطني للمرأة الفلسطينية، تؤكد الجبهة العربية الفلسطينية أن هذا اليوم يأتي …