
قراءة ادبية: في قصيدة “حين نغادر كي نعود أنقى” للشاعرة رانية مرجية ، بقلم : د . عادل جودة
تنسج الكلمات خيوطًا روحية عميقة تلامس جرح الوجود الإنساني، وتُعيد تعريف الغياب ليس كنهاية، بل كممرٍّ ضروري نحو الذات.
فالشاعرة لا تُغادر من باب الهروب أو القطيعة، بل من باب التحرر، ذلك التحرر الذي لا يُحقَّق إلا حين يُدرك الإنسان أن الحب الحقيقي لا يُقيِّد، بل يُطلق، وأن البقاء أحيانًا قد يكون أشبه بالغياب إن فقد معناه وروحه.
تبدأ القصيدة بفعلٍ حاسم: “نغادر”، لكنه ليس فعل هروب، بل فعل وعي.
فحين يصير البقاء وجهًا آخر للغياب، ويصبح الصمت أصدق من الحوار، يصبح الرحيل ضرورة وجودية، لا خيارًا عاطفيًّا. وهنا تكشف الشاعرة عن فهمٍ دقيق لطبيعة العلاقات الإنسانية، إذ لا تُدين الحب، بل تُدين الحب الذي لا يُحرر، ذلك الحب الذي يتحول إلى نارٍ تأكل الورقة وهي تضيءها—صورةٌ شاعرية مؤثرة تجمع بين الجمال والدمار، بين الإشراق والاحتراق.
ومن ثم تُعلن الشاعرة أن الغياب هو فرصةٌ للتطهير، لا للانتقام أو النسيان.
إنها تغادر كي “تنقّي أرواحها من التعلّق”، من ذلك الوهم الخطير الذي يجعل من الآخر خلاصًا، بينما الخلاص الحقيقي يبدأ حين نقول “كفى”. هذه الكلمة الصغيرة تحمل ثقل التحوّل، ثقل الوعي، ثقل القرار بأن نتوقف عن انتظار الآخرين ليمنحونا السلام أو المعنى.
وفي الغياب، لا تجد الشاعرة الفراغ، بل تجد ذاتها. تلتقي بأصواتها الأولى، بوجوهها قبل أن تشوهها المرايا، بقلبها حين كان يحب بلا خوف.
إنها لحظة العودة إلى الأصل، إلى البراءة التي سبقت الجراح، إلى الحب الذي لم يُلوَّث بعدُ بالاحتياج أو التملّك. والغياب هنا ليس انقطاعًا، بل “صلاة طويلة دون كلمات”، اعتراف صامت بأن النضج قد حان، وأننا لم نعد أولئك الذين يبحثون عن أنفسهم في عيون غيرهم.
ثم تأتي العودة، لا كرجوعٍ إلى نقطة البداية، بل كولادةٍ جديدة. فالشاعرة تعود “كمن خرج من الضوء”، تحمل أجنحة من صفح، وقلبًا تعلّم أن السلام لا يُؤخذ من أحد، بل يُزرع داخلاً حين نكفّ عن المطالبة.
هذه العودة ليست رجوعًا إلى علاقة أو مكان، بل إلى حالةٍ داخلية من الصفاء واليقين.
في النهاية، تتحول الدموع إلى ماء حكمة، والوجع إلى باب، والنهايات إلى بدايات.
فالشاعرة لم تصرخ حين احترقت، ولم تُعلن حين غفرت، ولم تنسَ حين مضت.
بل مضت بوعي، وغفرت بسكينة، واحترقت بصمت—كل ذلك ليكون رحيلاً نقيًّا، وعودة أنقى.
إن القصيدة بكاملها رحلةٌ من التعلّق إلى التحرر، ومن الظلام إلى الضوء، ومن الآخر إلى الذات. وهي تذكيرٌ عميق بأن أسمى أنواع الحب هو ذلك الذي يمنحنا الحرية، وأعمق أنواع السلام هو ذلك الذي نزرعه في داخلنا، لا ننتظره من أحد.
تحياتي واحترامي
حين نغادر كي نعود أنقى
قصيدة رانية مرجية
نغادرُ،
حين يصير البقاءُ وجهًا آخرَ للغياب،
وحين يغدو الصمتُ أصدقَ من كلِّ حوار.
نغادر،
لا لأننا كرهنا،
بل لأن الحبَّ الذي لا يُحرِّرُنا،
يأكلُنا ببطءٍ،
كما تأكلُ النارُ الورقَ وهي تضيءُه.
نغادرُ كي نُنقِّي أرواحنا من التعلّق،
من فكرةِ أنَّ الآخرين خلاصُنا،
ونكتشفُ أنَّ الخلاصَ يبدأُ حين نقول:
كفى.
نغادر،
فنُصبحُ خفيفينَ كالغيم،
نمشي على الذاكرةِ دون أن نتركَ أثرًا،
نغفرُ للوجعِ لأنَّه علَّمنا،
ونشكرُ الفقدَ لأنَّهُ دلَّنا على أنفسِنا.
في الغياب،
نلتقي بأصواتِنا الأولى،
بوجوهِنا قبلَ أن تُرهقها المرايا،
وبقلوبِنا حين كانت تُحبُّ بلا خوف.
الغيابُ ليس فراغًا،
إنَّهُ مسافةٌ ليتنفّسَ القلبُ بعيدًا عن قيدِ الأمنيات.
إنَّهُ صلاةٌ طويلةٌ دون كلمات،
واعترافٌ صامتٌ بأنَّنا كبرنا.
نعودُ بعد الغيابِ كمن خرجَ من الضوء،
نعودُ بأجنحةٍ من صفحٍ،
وبقلبٍ يعرفُ أنَّ السلامَ لا يُؤخذُ من أحد،
بل يُزرعُ في الداخلِ حين نكفُّ عن المطالبة.
نعودُ،
وقد صارت الدموعُ ماءَ حكمة،
وصارَ الوجعُ بابًا،
وصارت النهاياتُ مجرَّدَ شكلٍ آخرَ للبدء.
نعودُ أنقى،
لأننا احترقنا دون أن نصرخ،
وغفرنا دون أن نُعلن،
ومضينا دون أن ننسى.
نعودُ لأننا عرفنا،
أنَّ الطريقَ الحقيقيّ ليس إلى أحد،
بل إلى أنفسنا.