11:08 مساءً / 21 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

النقد كوعيٍّ حيّ: قراءةٌ فلسفيةٌ في عُمق الكلمة ، بقلم : د. عادل جوده

النقد كوعيٍّ حيّ: قراءةٌ فلسفيةٌ في عُمق الكلمة ، بقلم : د. عادل جوده

في نصّها “النقد كوعيٍ حيّ”


ترفع الأديبة رانية مرجية النقد من مدارج التحليل الأكاديمي الجاف إلى مصافّ التجربة الوجودية المُضيئة.
إنها لا تُمارس النقد كمهنةٍ، بل كصلاةٍ فكريةٍ تُؤدّى في محراب اللغة، حيث تلتقي الفلسفة بالوجدان، والصمت بالكلمة والقارئ بالنصّ في لحظةٍ تشبه الخلق الأول.

ما يلفت في رؤيتها هو تحوّل النقد من فعلٍ تقويميٍّ إلى فعلٍ تحرّريٍّ.


فالناقد عند الأديبة رانية ليس قاضيًا يُصدر أحكامه من برجٍ عاجيٍّ، بل مستمعٌ يُعيد للغة أنفاسها الأولى،
ويُحيي في الكلمة ما كاد أن يموت تحت وطأة التكرار والاعتياد.
إنها تنظر إلى النصّ ككائنٍ حيٍّ، يتنفّس عبر قارئه،
ويولد من جديد كلّما اخترقته عينٌ واعية.
ومن هنا، يصبح النقد فعلَ ولادةٍ معنويةٍ، لا فعلَ تمحيصٍ ميكانيكيٍّ.

ويتجلّى البُعد الفلسفيّ في نصّها حين تربط بين اللغة والوجود، فترى في كلّ نصٍّ أدبيٍّ “بذرة كونٍ صغيرة”.
هذا التصوّر لا ينبع من رؤية جمالية فحسب، بل من إيمانٍ عميق بأنّ الأدب ليس زينةً للكلام، بل سؤالٌ جوهريٌّ عن معنى الوجود.


فالكاتب، في لحظة الإبداع، لا يكتب فقط ليعبّر، بل ليُجابه الصمت الذي يسبق الوجود، والناقد الحقيقيّ هو من يُدرك هذا الصمت، ويُصغي إليه كأنه صوتٌ آخر من أصوات الكون.

ولا تقف رانية عند حدود الفلسفة، بل تنزل إلى أعماق النفس، فتقرأ النصوص بعينٍ نفسيةٍ ترى ما وراء الرموز، وتلتقط أنين البياض بين السطور. هنا، يتحوّل النقد إلى حوارٍ مع الهشاشة الإنسانية، لا إلى استجوابٍ للغة.


وهي تُذكّرنا بأنّ الجرح الحقيقيّ لا يظهر في الكلمات الصريحة، بل في التلعثُم، في التردّد، في ما لم يُقل. ومن ثمّ، يصير النقد فعلَ رحمةٍ، لا فعلَ تمحيصٍ.

والأجمل في رؤيتها هو اعتبارها النقد “صلاةً فكرية”.


فحين تقرأ قصيدةً صادقة، لا ترى فيها بنيةً لغويةً، بل كائنًا نورانيًّا يركع في حضرة الحقيقة.
وهذا التصوّر الصوفيّ يمنح النقد بُعدًا روحانيًّا نادرًا، يجعل من القراءة تجربةً مقدّسة، ومن التحليل طقسًا وجوديًّا.
فالناقد، في هذا السياق، ليس مفسّرًا، بل حارسًا للنور الذي ينبعث من النصوص الحقيقية، حارسًا من عتمة الأكاديمية ومن استهلاك الجمال.

وفي النهاية، تصل الأديبة رانية إلى القناعة العميقة بأنّ “الإنسان هو النصّ الأخير”.


فكلّ نقدٍ حقيقيٍّ هو، في جوهره، محاولةٌ لإنقاذ الإنسان من التحوّل إلى فكرةٍ مجرّدة أو رقمٍ في سجلّات الثقافة. إنه مقاومةٌ ضدّ العدم، وإحياءٌ دائمٌ للمعنى.

بهذا، تُعيد الأديبةرانية مرجية للنقد هيبتَه الروحية
وتجعل منه مسؤوليةَ حبٍّ ووعي، لا سلطةَ معرفةٍ وتحكم.
فالأدب في رؤيتها ليس مرآةً للواقع، بل نافذةٌ على الروح والنقد الحقيقيّ هو من يفتح هذه النافذة
لا ليُحلّل الزجاج .. بل ليُطلّ على ما وراءه من دهشةٍ وألمٍ وجمال.

تحياتي واحترامي

شاهد أيضاً

بيت لحم تحتفي بيوم التراث الفلسطيني بفعالية تؤكد دور الإعلام والفنون في صون الهوية الثقافية

بيت لحم تحتفي بيوم التراث الفلسطيني بفعالية تؤكد دور الإعلام والفنون في صون الهوية الثقافية

شفا – شاركت محافظة بيت لحم ممثلة بالأخ مراد حميد مدير دائرة الشباب والثقافة، في …