11:18 مساءً / 10 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

بصيرة زرقاء : قراءة في رواية الضوء الأزرق ، بقلم : بلقيس عثامنه

بصيرة زرقاء : قراءة في رواية الضوء الأزرق ، بلقيس عثامنه

بصيرة زرقاء : قراءة في رواية الضوء الأزرق ، بقلم : بلقيس عثامنه


الضوء الأزرق بصيرة تنبعث من الكون، من الإنسان، من الكائنات، ربما!


هكذا تبنى الرواية على مراحل من التشظي، وفصول من التساؤلات والحيرة، رحلة في عوالم النفس الخارجية والداخلية يتخللها الكثير من لحظات “تيار الوعي” هذه السمة الفنية التي تبحر في عالم الراوي إلى أقصى مراحل الحقيقة والصدق مع النفس، مرحلة التداخل بين الخارج والداخل، لحظات من فقدان البوصلة ولكنها حقيقة!


الضوء الأزرق، يمثل دعوة للتفكر والبحث، دعوة تأمل في خلجات النفس بحثًا عن حقيقتها، مكمن قوتها، وعناصرها، هذه النفس التي خلقت في ثقافة ومكان ما، والتي تحمل مميزات تجعلها متفردة، يجهلها الإنسان في كثير من المرات، يفقد القدرة على فهم ذاته وتمييز حقيقته، خصاله، مبادئه، أهوائه، وحتى قدراته وإمكانياته، وهويته..


الهوية التي يجهلها الإنسان وقد يخلع ثوبها بحثًا عن نفسه في ثوب آخر، بنكران لماضيه وما هو عليه، إن الرواية دعوة لاكتشاف الهوية الحقيقة للإنسان، بعيدًا عن الصورة النمطية لبناء انتماءات الإنسان، لكن السؤال هنا، هل يمكن أن يتنكر الإنسان لهويته وجذوره؟


الإجابة قطعًا لا، فالتأمل والبحث عن الذات، طريق يربط الإنسان بماضيه وجذوره القارة، هذه الجذور الراسخات التي لا يمكن نكرانها، فلكل منها رحلته في الحياة، ودروبه لاكتشاف مكامن قوته، والتي تجذبه شاء أو أبى إلى الماضي القار في داخله، إلى تلك المساحة الآمنة من الهوية التي تميزه بمجموعة من الناس.


وتختلف التجربة باختلاف مكان البحث، فإن البحث في فلسطين، مسقط رأس حسين، مختلف عن البحث في أميركا، والبحث في سياتل مختلف عن نيويورك، إذ تعرض الرواية للبحث عن المعنى بصور متباينة لأشخاص مختلفين وبطرق متعددة، فهذا هندي يرى الفن في القمامة، وهذا صوفي تركي يرى المعنى في بحث الإنسان في أعماقه، ولكل طريقة ولكل بعد خاص في رؤية وتقدير الذات والبحث عن الهوية، إذ يمكن للجنون أن يكون طريقًا هنا، أما في فلسطين فلا يمكن، وهذه لفتة خاصة من الكاتب إلى عمق التجربة، قبول الاختلاف، والتركيب الاجتماعي التي تمثل كلها عوامل خاصة في رحلة البحث عن الهوية الخاصة بالإنسان، فالحرية المطلقة درب معبّد… “قالت لي عن الولايات المتحدة: هنا، تستطيع أن تذهب إلى جهنم، ولكن وحدك، وتذهب فعلا ولا أحد يهتم.. لكنها أكثر ثقافة وحيدة في العالم، الأميركان يرتعبون من الوحدة.”


تسلط الرواية الضوء على التناقض بين أمريكا، التي تمثل نقطة التقاء للباحثين عن ذواتهم من مختلف أنحاء العالم، وبين فلسطين، التي يعيش أهلها شعورًا عميقًا بالوحدة رغم ارتباطهم الوثيق بالأرض وانتمائهم لبعضهم البعض. يظهر هذا التناقض في سياق الصراع على الأحقية مع اليهود، حيث تتجلى مفارقة مؤلمة: اجتماع شتات العالم في مكان واحد بحثًا عن الذات، في مقابل تشتت أبناء فلسطين في أرضهم، رغم تجذرهم فيها.


” كنت «أحن» إلى «وطن»، و«بيت»، وبقاع في الذاكرة تشكل مرجعية لي في المنفى والمتاهات، إلى شيء ثابت، دائم، لا يمكن أن يتغير أو يتم فقدانه. كنت كمن يعيش في بلاد مبنية على ظهر حوت، فيها نخل، وبحارة، وأسواق ذهب، وعبيد، بلاد – متاهة ، ولكن على الأقل ثابتة، تحتها ثابت، وفجأة، تحرك الحوت نحو الأعماق، وبدأ كل شيء يغرق، الفكرة عن الثبات» غرقت. وكلُّ عالمي صار بحراً أهوج لا سواحل له، يسكنه قراصنة على ظهر السفن.”


إن اختلاف التجارب يتعلق باختلاف المعلم الموجّه، واختار الوجهه مهم أيضًا، “تلامذة كثر يدقون على بابي بأيد ماطرة كي أعلمهم، وأعلمهم ما هو التعليم، ولكن لا يفقهون كلامي. تجاربي معبدي، ومعبدي مقدس. وأدخلهم معبدي.. ومعلمي كان بإمكانه أن يعلمني الغوص قبل أن يلقي بي في بحره.” هذه النظرة الفلسفية تحمل بعدين وتمثل ركيزة في بناء فكرة الرواية، فالمعلم هو الموجه الذي يمكنه تغير الوجهة وتعليم الغوص وإعطاء النصائح وإرشاد الطالب بناء على تجاربه ورؤيته الخاصة للحياة وفلسفته في التعامل مع تقلباتها، ومن ناحية أخرى على التلميذ أن يكون صبورًا وحاد الذكاء ومخلصًا لهذه العملية..


تكثر الأبعاد الفلسفية في الرواية “لكل إنسان جسدان، جسد ذهني وآخر فيزيائي” هذا الجسد الذهني لا يحده مكان أو زمان، خارق للحدود وللقواعد الطبيعية ولديه قوى خارجة عن المألوف بشحذها وفهمها بطريقة سليمية يمكن للإنسان توظيفها لفهم عالمه الفيزيائي وللابتعاد خارج الآفاق المعقولة والبحث في مكان آخر، هذه القدرة البشرية هي ضوء نافذ ضوء أزرق باحث عن الحقيقة بحر من ضياء وسماء لا حدود لها، هذا الضوء رحلة في العوالم الذهنية، “ما رأيك فيمن يعتقد أن العقل لغز لا يراه أحد؟ قال: لا تصدق مفاتيحهم!” وهنا يكون العقل حقيقة بقدراته الخلاقة وبلا محدوديته، وإن الحد منه خدعة ليكون الإنسان مقيدًا في حدوده الفيزيائية، وهذه دعوة للتحرر وكسر القيد “العقل في خدمة السيدة. وما هي السيدة؟ القلب” فالعقل مفتاحه القلب، والبصيرة تنتقل من القلب إلى العقل الذي ينقل النور ويحقق الصفاء.


“كنت أعتقد أن العقل موجود في أنسجة الدماغ، في داخلي، فعثرت عليه في الشوراع ومصابير النيون! شعرت بعظمة العقل بطفحه. أدرت نظري في كل ما حولي بذهول، وأنا أردد بلا وعي مني: هذا هو العقل! سألته: هل نحن في داخل العقل، كالنبي يونس في بطن الحوت؟ قال: نحن فيه وهو فينا. أنظر إلى المخرج الأخير يا رجل: ما هو؟ مقهى؟ قلت: نعم مقهى،.. لا! لا! هذا المقهى كان حلمًا في خيال صاحبه! وبناه. الآن نحن نلعب الشطرنج في داخل حلم صاحب المقهى، في دهاليز حلم سابق. تخيل! توجد مجرة مضيئة ومنفصلة، وتدور حول محورها وتسبح في داخل كل ذهن.”


فلسفة خاصة، دعوة لفهم العقل وإمكاناته، وقدرته على تحقيق المستحيل، فكلّ يستطيع توجيه طاقاته وتوظيفها لصالحه، عند فهمه الحقيقي لهذه القوة الكامنة داخله “هي العقل، دائرة من ثلاثمئة وستين زاوية، وبين كل زاوية وأخرى زوايا لا نهائية.. كل زاوية طريقة نظر إلى الدنيا والحياة، تعلم من هذه الخشبة أن ترى دائريا”. إن نظرتنا للحياة وإلهامنا الحق ومواقفنا الخاصة مبنية على ارتباط القلب بالعقل وعلى معرفتنا لقدراتنا وتوظيف كل ما هو خارجي لصالح الداخل لصالح الطاقة العظيمة اللامحدودة، إنها دعوة لرؤية الضوء الأزرق، للتأمل وتغيير الزوايا وبالتالي اختلاف الرؤيا..


تتطرق الرواية لعدد من الموضوع في رحلة حسين للبحث عن ذاته، رحلة البحث عن الحقيقة الكامنة والطاقة الساكنة في داخله، فهو غير ثابت تائه وفاقد للبوصلة تماما كجذوره التي تضعضع سكونها بسبب الاحتلال، حزين كأرض فلسطين، ولا يثق بنفسه ولا بالكون من حوله.


تشكل الرواية رحلة في فهم الذات، هذه الذات المتشظية التي تشبه بناء الرواية التي جاءت في بناء سردي غير مترابط ولا متماسك زمنيًا، وترتيب الأحداث فيه يفتقد للتنظيم وكثر مزج الواقع بالخيال، والسرد بتيار الوعي، في دلالة على صدق الرحلة وصعوبة العبور إلى عالم الحقيقة إلى اكتشاف العقل وفهم النفس البشرية، وقبول تعددها وصدقها وطاقاتها، هذه الرحلة التي يجب أن يخوضها كل شخص ليعرف هويته الخاصة والنور الذي أرسل معه، والضوء الذي يحقق فيه ذاته.


إن الرواية انعكاس لواقع الحياة في إطار فلسلفي ورحلة فردية من مخاض ولادة جديدة يفهم من خلالها الإنسان نفسه، إنها دعوة للتأمل والتفكر، ولإعادة توجيه النفس ومعرفة الإنسان من هو حقا فنحن نأسر أنفسنا في حدود ضيقة في حين أن بداخل كل منا بحر وفضاء..

شاهد أيضاً

مجموعة الصين للإعلام تطلق مبادرة بناء استراتيجية تقوية العلامات التجارية الوطنية لعام 2026

مجموعة الصين للإعلام تطلق مبادرة بناء استراتيجية تقوية العلامات التجارية الوطنية لعام 2026

شفا – أعلنت مجموعة الصين للإعلام اليوم الجمعة عن اطلاق مبادرة ” بناء استراتيجية تقوية …