11:53 مساءً / 10 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

المناهج … ، سيادة وهوية تحترم المعايير العالمية ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني

المناهج … ، سيادة وهوية تحترم المعايير العالمية ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني


يُعَدّ المنهاج الفلسطيني أحد أعمدة السيادة الوطنية الثقافية والتربوية، إذ يتجاوز كونه وثيقة تعليمية ليصبح أداة وجودية تحمي الذاكرة الجمعية وتؤسس للهوية الفلسطينية في مواجهة احتلال يمتد عبر الزمن. في ظل واقع استعماري استثنائي، يتحول التعليم إلى فضاء لصياغة الوعي النقدي وتمكين العقل المستقل، ومصدر لاستمرارية الكرامة الوطنية. أي محاولة لتغيير هذا المنهاج خارج الإرادة الفلسطينية ليست مجرد تعديل منهجي، بل هي محاولة لإعادة هندسة الوعي الوطني، وتحويل الفعل التربوي إلى أداة ضبط وامتثال للهيمنة السياسية والثقافية.


شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً في محاولات الاتحاد الأوروبي ودول مانحة أخرى ممارسة الضغوط على وزارة التربية والتعليم الفلسطينية ووكالة الأونروا لتغيير المناهج التعليمية، بدعوى احتوائها على “تحريض ومعاداة للسامية”. وكُلِّفت مؤسسة جورج إيكرت الألمانية بتحليل المناهج الفلسطينية، وأقرّ تقريرها بأن المنهاج الفلسطيني يتضمن قيم حقوق الإنسان والتسامح والمواطنة، ويعزز التعددية الثقافية والإنسانية (Georg Eckert Institute, 2021). ومع ذلك، استُخدمت نتائج التقرير كذريعة لوقف أو تقييد التمويل الأوروبي، في تجاهل واضح للنتائج الإيجابية، وتحويل التمويل إلى أداة ضغط سياسي تهدف إلى نزع الطابع الوطني عن التعليم الفلسطيني وإخضاعه لمعايير خطاب دولي يساوي بين الضحية والجلاد.


تكشف هذه الممارسات ازدواجية المعايير الدولية في التعاطي مع المناهج التعليمية، حيث غالباً ما يتحرك الأوروبيون تحت تأثير عقدة الذنب التاريخية للمحرقة النازية، في محاولة جزئية لـ”تكفير” ما حدث لليهود، دون مراجعة منهجية أو نقد واقعي للمناهج الإسرائيلية، في تجاهل للسياسات التعليمية الإسرائيلية التي تعزز التفوق الإثني والتعصب القومي، وهكذا، يصبح الصراع حول المنهاج الفلسطيني صراعاً على السيادة والوعي في آن واحد، يتقاطع فيه البعد القانوني والتربوي والفكري والسياسي، ويبرز أهمية التعليم الوطني في حماية الحق الفلسطيني في رواية تاريخه وهويته، وضمان استمرار التعليم كفضاء للتحرر الثقافي والسياسي.


المحور الأول: الإطار القانوني والسيادي للمنهاج الفلسطيني


ينطلق المنهاج الفلسطيني من قاعدة قانونية متينة، تتقاطع فيها السيادة الوطنية مع حق الشعوب في تقرير مصيرها الثقافي والتربوي، وهو حقّ كفله العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)، الذي نصّ على مسؤولية الدول في ضمان التعليم بما ينسجم مع ثقافة الشعوب وقيمها الخاصة. ومن هذا المنطلق، يُنظر إلى التعليم الفلسطيني كحقّ جوهري وفضاء لتشكيل الوعي والهوية الوطنية، وكركيزة للحفاظ على كينونة الأمة وذاكرتها الجمعية في مواجهة محاولات الإلغاء والطمس الاستعماري.


وتؤكد الوثائق الوطنية الفلسطينية، وعلى رأسها الإطار العام للمناهج المطوّرة، أن بناء المناهج يتم استناداً إلى القانون الأساسي ووثيقة الاستقلال، بما يضمن احترام الهوية الثقافية وتعزيز القيم الأخلاقية والتلاحم الوطني. فالمناهج، في جوهرها، لا تنقل المعرفة فحسب، بل تُعيد إنتاج وعي وطني نقدي، يرسّخ في المتعلم روح الانتماء والمساءلة والقدرة على التفكير المستقل، ويجعل من التعليم فعلاً سياسياً وإنسانياً يسهم في بناء الذات الحرة الواعية بحقوقها وتاريخها ومجتمعها.


إن أي تدخل خارجي لتغيير المناهج يُعدّ مساساً مباشراً بالسيادة الثقافية والتربوية الفلسطينية، ومحاولة لإخضاع الفعل التربوي لمنطق الهيمنة الدولية. فالمنهاج الفلسطيني ليس وثيقة تقنية، بل نصّ سيادي يعبر عن الوجود الفلسطيني وذاكرته التاريخية، وعن فلسفة ترى في الإنسان الفلسطيني كائناً مبدعاً وقادراً على إعادة بناء وعيه ومجتمعه. وهكذا يتحول التعليم إلى ممارسة للحرية وصونٍ للهوية، وإلى أداة ثبات فكرية وثقافية ترفض تفريغ المعنى من جوهره الإنساني.


المحور الثاني: المنهاج الفلسطيني في سياقه التربوي والفكري والثقافي


يتأسس المنهاج الفلسطيني على رؤيةٍ تربويةٍ تعتبر التعليم فعلاً وجودياً بامتياز؛ فهو ليس عمليةً لنقل المعرفة، بل مسارٌ إنسانيٌّ يستهدف إعادة تشكيل الوعي وتمكين الإنسان الفلسطيني من قراءة واقعه وتغييره. فالتعليم هنا ممارسةٌ صمود فكريةٌ، تتجاوز الحياد التقني لتصبح فعلاً تاريخياً يربط بين التحرر والمعرفة، وبين الكرامة والوعي النقدي.
وفي هذا الإطار، يشكّل المنهاج الفلسطيني مرآةً لروح المجتمع تحت الاحتلال، إذ لا يكتفي بعرض المعارف، بل يُعيد إنتاج السردية الوطنية في مواجهة الرواية الصهيونية الساعية إلى طمس الذاكرة ومحو المعنى. وبهذا يصبح المنهاج فضاءً تربوياً للصمود الثقافي، يعلّم الطلبة أن الكلمة يمكن أن تكون سلاحاً، وأن التعليم مشروعٌ للحرية لا أداةٌ للامتثال.
وتعبّر المناهج الفلسطينية عن جوهر الثقافة والهوية الوطنية بوصفهما بُعدين متكاملين في تشكيل الوعي الجمعي.

فالثقافة هي أنماط الحياة والمعرفة والعادات والمعتقدات التي تشكّل كينونة المجتمع، بينما تمثل الهوية سمات الفرد والجماعة في المظهر والسلوك والانتماء. وعندما يُضاف البعد الوطني، تتجسد الثقافة الوطنية في التاريخ والجغرافيا والسياسة واللغة والدين والعادات، فيما تتجلى الهوية في الرموز الجامعة كالزيّ والعلم والأغنية التي تُوحّد الذاكرة وتُرسّخ الانتماء للوطن. وهذا ما تؤكده اليونسكو حين ترى أن الهوية الثقافية هي انتماء الأفراد إلى جماعةٍ لغوية أو وطنية تمتلك قيمها وتقاليدها وأساليب عيشها التي تُعبّر عن تاريخها وفهمها للعالم (UNESCO, 2001).


إن أي مساسٍ بالمناهج الفلسطينية يعني عملياً إعادة صياغة الوعي وفق محددات الهيمنة الاستعمارية، وتجريد التربية من مضمونها لصالح خطابٍ خاضعٍ لشروط التمويل الدولي، بما يُهدد الثقافة والهوية ويُضعف قدرة التعليم على ترسيخ الانتماء الوطني والفكر النقدي. فحين تُختزل المناهج إلى مهارات تقنية تُمحى من محتواها القيمي والسيادي، تفقد المدرسة دورها كحاضنةٍ للوعي ومجالٍ للسيادة المعرفية.


وعليه، فإن المنهاج الفلسطيني ليس وثيقة تعليمية فحسب، بل هو وثيقة، وجودٍ، وهويةٍ، وصمود. إنه الأداة الأعمق لترسيخ الثقافة الوطنية وبناء وعيٍ جمعيٍّ مقاوم، وصونٍ للسيادة الفكرية أمام محاولات الاختراق الثقافي. ومن خلاله، يتكرّس التعليم كفعلٍ يصوغ إنساناً فلسطينياً مؤمناً بأن المعرفة حقٌّ يُنتزع وكرامةٌ تُصان


المحور الثالث: المناهج الفلسطينية في ضوء مبادي اليونسكو والهدف الرابع من التنمية المستدامة


أولاً: المقارنة بين الإطار العام للمناهج الفلسطينية ومبادئ اليونسكو


استنادا الى تقرير مقارن بين معايير اليونسكو للمناهج وثيقة الإطار المرجعي لتطوير المناهج الفلسطينية وزارة التربية والتعليم العالي (2022) حيث استندت هذه المقارنة على المبادئ والمعايير التي تعتمدها اليونسكو وهي: جودة التعليم لجميع المتعلمين والمتعلمات. وتعليم القيم والمبادئ والمهارات التي تعزز العيش المشترك، وتنمية تفكير المتعلمين والمتعلمات لبناء السلام العالمي. فقد تبين جودة التعليم لجميع المتعلمين والمتعلمات: أظهر الإطار العام للمناهج الفلسطينية 2022 توجهاً واضحاً نحو العدالة في فرص التعليم وجودته، متسقاً مع مبدأ “التعليم الجيد المنصف والشامل” الذي تؤكد عليه اليونسكو. إذ يركز الإطار على تطوير مهارات التفكير العليا، والدمج التربوي لذوي الإعاقة، ومراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين. ومع ذلك، تظل بعض التحديات قائمة في ترجمة تلك المبادئ إلى ممارسات تربوية داخل الصفوف، خصوصاً في ظل تفاوت الإمكانات بين المدارس وضعف الموارد، ما يجعل تحقيق الجودة المستدامة مرتبطاً بقدرة النظام التربوي على المواءمة بين الرؤية والسياسات التنفيذية.


تعليم القيم والمبادئ والمهارات التي تعزز العيش المشترك: تتقاطع المناهج الفلسطينية مع توجهات اليونسكو في ترسيخ قيم الحوار والتسامح والاحترام المتبادل، من خلال تضمين موضوعات المواطنة، وحقوق الإنسان، والهوية الثقافية الجامعة. إلا أن الطابع الوطني المقاوم في المنهاج الفلسطيني يمنحه بعداً خاصاً يتجاوز المفهوم الكلاسيكي للتربية على العيش المشترك، إذ يربط القيم الإنسانية بالتحرر والكرامة، ما يجعله نموذجاً لتربية تنبثق من سياق الصراع والعدالة، وتعيد تعريف “العيش المشترك” بوصفه شراكة قائمة على الحرية والاحترام المتبادل، لا على التسوية أو الإذعان.


تنمية تفكير المتعلمين والمتعلمات لبناء السلام العالمي: يتبنى الإطار الفلسطيني فلسفة تربوية تسعى إلى تمكين المتعلمين من التفكير النقدي، وحل المشكلات، والمشاركة في بناء مجتمع عادل وسلمي. وفي حين تتلاقى هذه التوجهات مع رؤية اليونسكو لبناء السلام عبر التعليم، فإن السياق الفلسطيني يضفي عليها طابعاً بعدا استراتيجياً يربط السلام بالعدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها. بذلك يتحول مفهوم السلام من “غياب الصراع” إلى “حضور الوعي والكرامة”، ما يجعل المنهاج الفلسطيني يسهم في بلورة وعي عالمي بديل للسلام القائم على التوازن الأخلاقي والحق الإنساني.


يُمكن القول إن المنهاج الفلسطيني، في ضوء مقارنته بمبادئ اليونسكو والهدف الرابع للتنمية المستدامة، يجسد مقاربة تربوية تتسم بالاتزان بين البعد الإنساني الكوني والخصوصية الوطنية، فهو يسعى إلى تحقيق جودة التعليم الشامل والمنصف لكل المتعلمين، ويرسخ منظومة قيمية تُعلي من شأن التعددية والعيش المشترك دون التفريط بالهوية، ويؤسس لتفكير نقدي ناقد يسهم في بناء سلام عالمي عادل قوامه الكرامة والحرية. وبهذا المعنى، فإن التوجه الفلسطيني نحو تطوير مناهج تستلهم مبادئ اليونسكو لا يعني الارتهان لمعايير خارجية، بل توطينها ضمن رؤية تجعل من التربية فعل وجودي ووعي إنساني متجدد


ثانياً تحليل الكتب المدرسية للصفوف (1- 9 أساسي)


أظهرت الدراسة التي نفّذتها المؤسسة العربية الأوروبية للتدريب والبحث والتعليم العالي أن المناهج الفلسطينية للصفوف (1–9) تتميّز بجودة محتوى متقدمة، تراعي إدماج مفاهيم حقوق الإنسان، البيئة، والنوع الاجتماعي، إضافة إلى الالتزام بمعايير التعليم النوعي وفق مؤشرات موثوقة وشاملة (المؤسسة العربية الأوروبية، 2019).


منظور حقوق الانسان: تُظهر نتائج التحليل أن المناهج الفلسطينية ملتزمة بمبادئ حقوق الإنسان كما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والإعلان العالمي لحقوق الطفل (1990)، من خلال تضمين حقوق الأطفال بشكل واضح في جميع الصفوف، مع التركيز على حمايتهم ورعايتهم، وتعزيز حرية الفكر والوجدان، وقبول التنوع الثقافي والديني والاجتماعي دون تمييز. كما يبرز في المناهج تمثيل المرأة والأشخاص ذوي الإعاقة وتمكينهم من المشاركة الفاعلة في التعليم والعمل، ما يعكس التزاماً جاداً بتعزيز العدالة الاجتماعية والشمولية منذ المراحل التعليمية المبكرة.


تعتمد فرق التأليف على إدماج حقوق الإنسان بشكل أفقي ضمن المواد الدراسية كافة، وليس كمواضيع مستقلة، ما يسهم في تعزيز وعي الطلاب بحقوقهم وحقوق الآخرين، ويشجع التفكير النقدي والمسؤولية المدنية. كما تشمل المناهج الحقوق المدنية والسياسية الأساسية، مثل الحق في التعبير، والتعليم، والعمل، والمساواة أمام القانون، بما يسهم في تكوين جيل قادر على المشاركة الفاعلة في المجتمع واحترام التنوع والاختلاف، بما يتوافق مع التوجهات العالمية لحقوق الإنسان. كما أشادت دراسة مؤسسة جورج إيكرت (Georg Eckert Institute, 2021) بشموليته للقيم الإنسانية والتعددية. ويُظهر هذا التوافق أن المنهاج الفلسطيني، رغم الضغوط الدولية، يحقق مقاصد التعليم القائم على حقوق الإنسان ويعزز البناء المدني والمجتمعي على أسس من العدالة والشمولية.


منظور البيئة: تميزت المناهج بتكامل موضوعات البيئة ضمن جميع المباحث الدراسية، وإن تفاوتت نسب التضمين بين الصفوف، إذ شملت القضايا البيئية الأربعة الأساسية بشكل متدرج. ومع ذلك، غابت بعض المؤشرات البيئية المهمة، مثل التلوث الغذائي، الإشعاعي، الضوضائي، وترشيد استهلاك المياه والغذاء، مما استدعى تعزيز حضور هذه القضايا في المحتوى التعليمي في الطبعة النهائية عام 2020م.


وقد أولت المناهج اهتماماً بالإعلانات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالبيئة والتنمية المستدامة، مؤكدة على أهمية التعليم من أجل التنمية المستدامة كمسار لحل أزمات المناخ والغذاء والطاقة. كما تعكس الكتب الدراسية وعياً بيئياً متعدد المستويات – محلياً ووطنياً وإقليمياً وعالمياً – وتحفّز الطلبة على البحث والاستقصاء في القضايا البيئية، بما ينسجم مع توصيات الأمم المتحدة في هذا المجال، ويسهم في ترسيخ مبدأ “السلام البيئي” كأحد مرتكزات السلم الإنساني الشامل.


منظور النوع الاجتماعي: جاء تمثيل النوع الاجتماعي في المناهج الفلسطينية متوازناً بدرجة ملحوظة، إذ تم إدراج صور إيجابية لدور المرأة كعالمة وباحثة وطبيبة، بما يعكس حضورها الفاعل في المجتمع. كما انسجمت مؤشرات النوع الاجتماعي مع توجهات اليونسكو واليونيسف في دمج مفردات المساواة بين الجنسين ضمن المناهج ووسائط الاتصال التربوي.


وعلى الرغم من الطابع المتوازن لبعض النصوص، لا تزال بعض الصيغ اللغوية تميل نحو التذكير، ما استدعى مراجعة لغوية واعية لتعزيز اللغة الشاملة والمفاهيم التشاركية في بناء الهوية الجندرية، وتم تضمين التعديلات النهائية في الكتب المدرسية من قبل لجنة محايدة عام 2020.


كما أبرزت الكتب دور المرأة في السياقات الوطنية والنضالية، وإن كان تمثيلها أقل من الرجل في بعض المواضع، مع ظهور إيجابي لذوي الإعاقة من الجنسين في أنشطة وصور تربوية متنوعة. ولاحظت الدراسة أيضاً أن المنهاج راعى البعد التاريخي والديني لدور المرأة في الإسلام من خلال نماذج نسائية رائدة، ويظل متقدماً في إبراز المرأة كفاعل اجتماعي وإنساني، لا مجرد رمز أو تابع، في سياق تربوي يهدف إلى تعزيز العدالة والمشاركة.


يمكن القول إن المناهج الفلسطينية تقترب بصورة لافتة من تحقيق مقاصد الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة، عبر التوازن بين جودة التعليم، المساواة بين الجنسين، والوعي البيئي والحقوقي. فهي مناهج تُعيد تعريف التعليم بوصفه ممارسة للحرية، وإعادة بناءٍ للذات الإنسانية في ضوء قيم العدالة والمواطنة والكرامة. إنها تؤسس لتعليمٍ يزاوج بين الهوية الوطنية والانفتاح الكوني، ويجعل من المتعلم فاعلاً اجتماعياً ناقداً، مسهماً في بناء مجتمع مستدام، عادل، وإنساني.


المحور الرابع: الاحتلال الإسرائيلي والمناهج التربوية – قهر الوعي وانتهاك مبادئ اليونسكو


أولا: الضغط والاستلاب التربوي:


على مدى عقودٍ طويلة، مارس الاحتلال الإسرائيلي منهاجاً مضاداً للتربية، يقوم على العنف الممنهج والحرمان والقهر، حتى غدت المدرسة الفلسطينية ساحة مواجهة يومية بين ذاكرةٍ تُراد محوها ووعيٍ يُصرّ على البقاء. ففي كل حاجزٍ يُقام أمام مدرسة، وفي كل كتابٍ يُصادر، كان الفلسطينيّ يعيد اكتشاف معنى التربية بوصفها فعل بقاءٍ وحقٍ في الوجود.
قبل عام 1994، كانت المناهج الفلسطينية في الأرض الفلسطينية المحتلة تخضع لرقابةٍ صارمةٍ وحذفٍ متعمّدٍ لكل ما يمتّ بصلةٍ إلى الهوية الوطنية والثقافة والذاكرة الجمعية. أراد الاحتلال أن يزرع الفراغ في وعي الأجيال، لكن هذا الفراغ تحوّل إلى محفّزٍ للامتلاء، إذ دفع الفلسطينيين إلى التنقيب في تاريخهم، وإعادة إنتاج هويتهم بأدواتهم، فكانت الثقافية الفلسطينية رديفاً للنضال السياسي، وكان التعليم الفلسطيني يتنفس من تحت الحصار.


ومع كل موجة تحريضٍ وهجومٍ على المناهج، يتجدد وعي الفلسطينيين بضرورة الدفاع عن سرديتهم. فالهجوم الخارجي يتحوّل إلى بوصلةٍ داخليةٍ للبحث والتصحيح وإعادة الاعتبار للمعرفة الوطنية. إن الاحتلال، الذي يهدم المدارس، ويعتقل المعلمين والطلبة، ويمنع الوصول إلى مقاعد الدرس، هو ذاته الذي يقدّم، دون أن يدري، درساً نقيضاً في التربية الإنسانية. فهو يُعلّم الفلسطينيين أن الحرية لا تُدرّس فقط في الكتب، بل تُمارس في الفعل والموقف. وهكذا يصبح المنهاج الفلسطيني منهاج حياةٍ وكرامةٍ وحقٍ في تقرير المصير، مقابل منهاجٍ استعماريٍّ قائمٍ على الإقصاء والعنصرية والإنكار


ثانيا: تقصير المناهج الإسرائيلية في الالتزام بمعايير اليونسكو


انسحبت إسرائيل من عضوية اليونسكو في عدة مناسبات، أبرزها في 2018، متذرعة بتحيز المنظمة ضدها، وهو انسحاب يعكس في العمق غياب الالتزام الفعلي لمبادئ اليونسكو التي تؤكد على جودة التعليم للجميع، وتعليم قيم العيش المشترك، وتنمية التفكير النقدي لبناء السلام. فالانسحاب ليس مجرد موقف سياسي، بل مؤشر على أن المناهج الإسرائيلية تخالف هذه المعاني، ويتضح ذلك من الاتي:


جودة التعليم لجميع المتعلمين والمتعلمات: تفتقر المناهج الإسرائيلية إلى توفير تعليم شامل وعادل لجميع الطلاب، إذ تُركّز على تعزيز التفوق الإثني اليهودي وتهميش الفلسطينيين، مع إلغاء أي محتوى يعكس الحقوق الوطنية الفلسطينية أو التنوع الثقافي (Peled-Elhanan, 2012) هذا التوجه يُقوّض العدالة في فرص التعليم ويحوّل المناهج إلى أداة لإعادة إنتاج الهيمنة الاستعمارية، بعيداً عن مفهوم “التعليم الجيد والمنصف والشامل” الذي تؤكده اليونسكو.


تعليم القيم والمبادئ والمهارات التي تعزز العيش المشترك: الكتب المدرسية الإسرائيلية، المستندة إلى التناخ والتلمود والمزاعم الصهيونية، تزرع مفاهيم العنصرية والتمييز الإثني، وتصوّر الفلسطينيين على أنهم بدائيون، متطفلون، ولصوص، بينما تغيب تماماً قيم التسامح والمساواة والتعايش الثقافي (Peled-Elhanan, 2012) بهذا تصبح التربية أداة لتعميق الانقسام الاجتماعي والسياسي، وتضاد بشكل صارخ مع مبدأ اليونسكو في ترسيخ قيم الحوار والاحترام المتبادل والعيش المشترك.


تنمية تفكير المتعلمين والمتعلمات لبناء السلام العالمي: تُعِد المناهج الإسرائيلية الطلاب لخدمة أهداف عسكرة المجتمع بدلاً من تمكينهم من التفكير النقدي وحل المشكلات بطرق سلمية، مع تمجيد القوة العسكرية والتاريخ القومي وفق الرواية الرسمية هذا يُقوّض أي قدرة على بناء وعي عالمي قائم على العدالة والسلام، متجاهلة القيم الإنسانية العالمية التي تربطها اليونسكو بالسلام والمواطنة الفاعلة (Peled-Elhanan, 2012).


يمكن القول إن المناهج الإسرائيلية، من خلال تركيزها على التفوق الإثني اليهودي وتهميش الفلسطينيين، وانتهاجها لأساليب عسكرة التعليم، تبتعد تماماً عن الالتزام بمبادئ اليونسكو المتعلقة بجودة التعليم الشامل، وتعليم قيم العيش المشترك، وتنمية التفكير النقدي لبناء السلام العالمي فهي تحوّل التعليم إلى أداة لإعادة إنتاج الهيمنة والاستعلاء، وتقوّض العدالة والاحترام المتبادل، وتغيب الوعي بالمواطنة العالمية، مما يجعل التربية وسيلة لتكريس الانقسام الاجتماعي والسياسي بدلاً من تعزيز الحوار والسلام والعدالة.


ختاماً، يُجسّد المنهاج الفلسطيني حارساً للهوية الوطنية وصوناً للذاكرة الجمعية، إذ يتجاوز كونه وثيقة تعليمية ليصبح مشروعاً وجودياً يتحصن به الإنسان الفلسطيني ضد محاولات الطمس والاستلاب الثقافي. التعليم هنا فعل متجذر في الوعي، فضاء صمود يربط بين المعرفة والكرامة، ويحوّل المدرسة إلى معقل للحقيقة وساحة لإعادة صياغة التاريخ والذاكرة الوطنية، مانحاً المتعلم القدرة على التفكير النقدي والمساءلة الذاتية، والعيش كفرد حر في مجتمع يعترف بحقوقه وجوهره الإنساني.


وفي هذا الإطار، يظهر الالتزام الفلسطيني بمبادئ اليونسكو في جودة التعليم وتنمية التفكير النقدي وتعليم القيم والمواطنة، ليس كامتثال شكلي، بل كتوطين ذكي يحافظ على خصوصية فلسطين، ويجمع بين الانتماء الوطني والوعي الإنساني الكوني، مع مراعاة أهداف التنمية المستدامة، بما يجعل المنهاج أداة لإعداد مواطنين فاعلين ومتساوين، قادرين على المساهمة في مجتمع مستدام وعادل.


في المقابل، تكشف المناهج الإسرائيلية عن فجوة صارخة، إذ تعزز التفوق الإثني وتهمش الفلسطينيين، بينما يُوظف التمويل الدولي المشروط أداة ضغط لإعادة توجيه المنهاج بعيداً عن محتواه الوطني. وهنا يبرز التساؤل العميق: إذا كانت المناهج الفلسطينية ملتزمة بالمعايير الدولية وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة، فما الجدوى من شروط تعديلها؟ المناهج الفلسطينية حصن سيادة؛ لا يُفتح إلا ببوابة الإرادة الوطنية الحرة.

شاهد أيضاً

مجموعة الصين للإعلام تطلق مبادرة بناء استراتيجية تقوية العلامات التجارية الوطنية لعام 2026

مجموعة الصين للإعلام تطلق مبادرة بناء استراتيجية تقوية العلامات التجارية الوطنية لعام 2026

شفا – أعلنت مجموعة الصين للإعلام اليوم الجمعة عن اطلاق مبادرة ” بناء استراتيجية تقوية …