12:30 مساءً / 10 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

الزُّكام النفسي ، بقلم : مروة معتز زمر

الزُّكام النفسي ، بقلم : مروة معتز زمر

الزُّكام النفسي ، بقلم : مروة معتز زمر


صحتك النفسية مسؤولية مشتركة في عالم مترابط

هل سبق أن أصبت بزكام شديد؟ على الأغلب نعم، و أول ما فعلته هو محاولة حماية من حولك: من خلال تغطية فمك عند السعال، غسل يديك باستمرار، وربما تجنّب المصافحة. إنه سلوك بديهي نابع من شعورنا بالمسؤولية تجاه الآخرين. ولكن، هل خطر ببالنا أن نُطبّق المبدأ نفسه على صحتنا النفسية لحماية أنفسنا والآخرين من الإصابة بالزكام النفسي؟


في عالم يزداد ترابطاً وتشابكاً، لم تعد الصحة النفسية شأناً فردياً منعزلاً، بل غدت مسؤولية مجتمعية تمسّ كل من حولنا. مشاعرنا، أفكارنا، وانفعالاتنا تنتقل كما ينتقل الفيروس في الهواء، فهي إما أن تمنح دفئاً وسكينة، أو تُلقي بظلال القلق والتوتر على محيطنا.


وبمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية الذي يصادف العاشر من أكتوبر، لنتأمل هذا “الزكام النفسي” الذي قد نصيب به الآخرين من غير وعي.


الصحة النفسية لا تعني فقط أن الإنسان خالٍ من المرض، بل هي شعور بالتوازن الداخلي يساعدنا على التعامل مع ضغوط الحياة، والتواصل بشكل جيد مع الآخرين، والإنخراط في الأنشطة المختلفة، والمشاركة بفاعلية في المجتمع. وإذا ضعفت هذه الصحة، فإن أثرها لا يظل محصوراً داخل الشخص نفسه، بل ينعكس على من حوله بشكل مباشر، فالأب عندما يكون مثقل بالهموم، يصبح سريع الغضب قليل الصبر، وهذا الجو المتوتر يترك أثره المباشر على أولاده فيزيد من قلقهم. الأم حين تدخل في حالة اكتئاب، تجد صعوبة في منح أطفالها الحنان والرعاية، فينمو الطفل وهو يشعر بنقص في الأمان العاطفي. في مكان العمل، المدير المرهق نفسياً ينقل ضغطه للموظفين، فيقلّ تركيزهم وتنخفض إنتاجيتهم. الموظف المحبط بدوره قد يصبح مصدراً دائماً للشكوى، فتسود أجواء سلبية في الفريق كله. وعلى مستوى المجتمع، الأشخاص الذين لا يجدون دعماً نفسياً عند مرورهم بالأزمات قد ينعزلون أو يميلون إلى السلوك العدواني، وهذا يضعف العلاقات الاجتماعية ويزيد من التوتر العام.


نحن كائنات اجتماعية، نتأثر ونؤثر بلا انقطاع، ابتسامة صادقة قد تُعيد الأمل لشخص غريب، فيما كلمة قاسية قد تُطفئ روح أقرب الناس إليك.


نعم صحيح نحن نعيش في ظروف قاسية، نُواجه صدمات وتحديات تفوق قدرتنا على الاحتمال أحياناً. من الطبيعي أن نشعر بالضعف والانكسار. لكن الحكمة التي نرددها في لغتنا العامية: الضربة التي لا تقتلني تقويني، تحمل بداخلها جوهر مفهوم نفسي عميق يُعرف بـ النمو ما بعد الصدمة.


هذا النمو يعني أن نتجاوز المحنة أكثر قوة ونضجاً، وأن نحول الألم إلى طاقة تغيير. لا يُلغي التجربة المؤلمة، لكنه يجعل منها وقوداً لنُصبح أكثر وعياً بذواتنا وأكثر تعاطفاً مع الآخرين. إنّه قرار بأن نخرج من الجراح نسخاً أفضل من أنفسنا، أكثر شجاعة وحكمة ومرونة.


طوال عقود، ارتبط الحديث عن الصحة النفسية بالوصمة والعار، فاعتُبر الحديث عن القلق أو الاكتئاب ضعفاً أو فشلاً شخصياً. لكن الحقيقة أن الاضطراب النفسي ليس بالضرورة مرضاً، بل قد يكون نتيجة تراكم الضغوط اليومية، الصدمات السابقة، أو الصعوبات التي نواجهها في حياتنا. هذه التراكمات تؤثر على جودة حياتنا، على أدائنا، وعلى تفاعلنا مع الآخرين، بل وأحياناً على رغبتنا في المشاركة في الحياة نفسها. لذلك، الاهتمام بالصحة النفسية ليس رفاهية، بل جزء طبيعي وضروري من حياتنا يشمل الوقاية والعلاج، ويُعتبر أساساً لرفاه الإنسان وقدرته على العيش بشكل متوازن
كُثُر اختاروا الصمت كي لا يُوصموا بالضعف، متناسين أن صمتهم لا يضرهم وحدهم، بل يترك أثراً على أسرهم ومجتمعهم.


لست لوحدك، فجميعنا نمر بضغوط نفسية، وهذا طبيعي في حياة مليئة بالتحديات. المهم أن ندرك أن طلب المساعدة ليس وصمة ولا علامة ضعف، بل خطوة شجاعة لحماية أنفسنا ومن نحب.


والله عز وجل قال لقد خلقنا الإنسان في كبد والإنسان مأجور على سعيه في طلب العافية، سواء كانت جسدية أو نفسية. وطلب المساعدة في أوقات الشدة ليس ضعفاً ولا عيباً، بل هو من باب الأخذ بالأسباب التي أمرنا الله بها، وصحتك النفسية أمانة بين يديك، تعينك على العبادة، وحسن الخلق، والرحمة بالناس


اليوم، نحن مدعوون إلى نقلة وعي عميقة: من النظر إلى الاضطرابات النفسية على إنها “عيب” شخصي، إلى التعامل معها كمسؤولية جماعية باتجاهين:


مسؤوليتك الأولى هي تجاه نفسك؛ اعتنِ بصحتك النفسية كما تعتني بصحتك الجسدية؛ امنح نفسك وقتاً للراحة والأنشطة التي تجدد طاقتك، لا تُحمّلها فوق طاقتها، وابتعد عن العلاقات التي تُرهقك وتستنزفك. وإذا شعرت أنك بحاجة للمساعدة، فلا تتردد في اللجوء إلى مختص، فهذا وعي ونضج لا ضعف.


أما مسؤوليتك الثانية فهي تجاه من حولك؛ وعيك بأهمية الصحة النفسية يجعلك أكثر قدرة على ملاحظة من يحتاج إلى دعمك. قد تكفي كلمة صادقة منك لتغيّر حال شخص قريب، وقد يكون مجرد إنصاتك هو ما ينقذ إنساناً يتألم في صمت.


لا تتجاهل إشارات التعب النفسي عند الآخرين، بل شجعهم على طلب المساعدة المتخصصة من مرشد أو أخصائي أو طبيب نفسيين، من غير إصدار أحكام. فربما تكون أنت السبب في أن يجدوا مساحة الأمان التي يحتاجونها ويتجدد الأمل في حياتهم من جديد..


وكما تقع المسؤولية على الفرد، فإن للمؤسسات التعليمية والإعلامية دوراً محورياً في نشر الوعي بالصحة النفسية، وكسر حاجز الصمت والوصمة.


(إن الاستثمار في الصحة النفسية هو استثمار في مستقبل أكثر إشراقاً) مجتمع أفراده أصحاء نفسياً هو مجتمع أكثر إبداعاً، تسامحاً، وإنتاجية. تقل فيه النزاعات، وتزدهر فيه العلاقات، ويشعر الناس فيه بالأمان والدفء الإنساني.


في اليوم العالمي للصحة النفسية نحن ندعوك لزيارة المساحات الآمنة المخصصة لك من قِبَل العاملين في المجال النفسي، جلستك مع الأخصائي النفسي ليست مجرد فضفضة، بل هي رحلة وعي وعلاج، تُستخدم فيها أدوات وأساليب تساعدك على فهم ذاتك وتجاوز ما يثقلك.


هناك من يُصغي إليك بصدق، يتعاطف دون حُكم، ويُعينك على أن ترى طريقك نحو السلام الداخلي، لتصبح نسخة أهدأ وأقوى من نفسك.


لنتعهد بأن نكون أكثر وعياً بأنفسنا وبغيرنا، لنتعلم أن نحول صدماتنا إلى فرص للنمو، وأن نهدي قوتنا الداخلية إلى أحبائنا ومجتمعنا وذواتنا أولاً.

شاهد أيضاً

القائم بأعمال سفارة دولة فلسطين لدى جمهورية الصين الشعبية شادي أبو زرقة يلتقي نائب مدير إدارة غرب آسيا وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية الصينية تشو بياو

القائم بأعمال سفارة دولة فلسطين لدى جمهورية الصين الشعبية شادي أبو زرقة يلتقي نائب مدير إدارة غرب آسيا وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية الصينية تشو بياو

شفا – التقى الدكتور شادي أبو زرقة، القائم بأعمال سفارة دولة فلسطين لدى جمهورية الصين …