
“وهلّأ لوين؟” – مرثية إنسانية عن الذاكرة والمرأة ، بقلم : سامية عرموش
فيلم “وهلّأ لوين؟” (2011) للمخرجة اللبنانية نادين لبكي ليس مجرد فيلم عن الصراع، بل هو رحلة فلسفية عميقة في معنى الوجود الإنساني في زمن الانقسام. يطرح الفيلم سؤالاً يتجاوز الجغرافيا: إلى أين تمضي البشرية حين يُستبدل جوهر الإيمان بالتطرف في العقيدة، وتغيب الرحمة عن الرموز؟
لبكي، التي تمزج ببراعة بين الدراما والكوميديا السوداء والأسلوب الموسيقي، تقدّم قرية لبنانية نائية كـ”مختبر” للسلام، حيث يتجاور المسجد والكنيسة كمرآتين، ولا ينفصلان إلا في قلوب الناس. القرية، بجغرافيتها المقدسة المكسورة، تستعير من الواقع وتكشف عن الاحتمال الميتافيزيقي للوحدة: وحدة المصير ووحدة الخوف.
نادين لبكي: صوت الواقعية الشاعرية
تُعد نادين لبكي من أبرز الأسماء في السينما العربية المعاصرة. وُلدت في بيروت عام 1974، وقد شكّلت نشأتها في لبنان الذي مزقته الحرب الأهلية وعياً فنياً حساساً. ما يميز أعمالها هو واقعيتها الحساسة والإنسانية التي تتناول قضايا اجتماعية ملحة، مثل الطفولة المهمشة وحقوق المرأة، بأسلوب بصري قوي. هي تمثل نموذجاً نادراً كامرأة تكتب وتُخرج وتُمثل، مما يمنحها تحكماً كاملاً بالرؤية الفنية للقصة.
عُرض فيلمها “وهلّأ لوين؟” في مهرجان كان، وحصد نجاحاً عالمياً، أبرزُه جائزة اختيار الجمهور في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي، واختير لتمثيل لبنان في جوائز الأوسكار.
النساء: صانعات سلام بحس وطني ومسؤولية جماعية
يُشيّد الفيلم سرديته على قوة المرأة كضمير للجماعة ومهندسة للنجاة. بينما ينزلق الرجال في حروب الهوية، تتحول النساء إلى صانعات للسلام اليومي. هذه الأدوار لا تُسند إليهن صدفة، بل تأتي من موقعهن كـ أول المتضررات من الحروب. فإدراك المرأة العميق لتكلفة الصراع، خاصة كأمهات يُجبرن على تحمل عبء التضحية لمنع أبنائهن من حمل السلاح، هو ما يغذي حسَّهن الوطني ومسؤوليتهن الجماعية في توحيد الصف.
هذه الحيل الأنثوية التي تلجأ إليها نساء القرية لإلهاء الرجال، تجعل الفيلم تأويلاً حديثاً لفكرة المسرحية اليونانية القديمة “ليسستراتي” (Lysistrata)، حيث تستخدم النساء الكوميديا والحيلة لإيقاف عبثية الحرب.
يلجأن إلى الكذب وافتعال المشاكل الوهمية، وحتى استقدام الراقصات الأجنبيات، ليس بدافع الخيانة، بل لأن الكذب يصبح أصدق من الحقيقة حين تكون الحقيقة قاتلة. إن الأنوثة هنا تتحوّل إلى “لاهوت بديل” عنوانه الرحمة؛ حيث تستحضر النساء الغواية كطقس مقدس لإيقاف القتل، وهو مشهد يمثل ذروة رمزية لغواية الحياة في وجه الموت المُقدس. هذه الحيلة النسائية هي تجسيد للرسالة الرئيسية: الطائفية ليست قدرًا، بل خيار، ويمكن تجاوزه بالتضامن الإنساني.
الذاكرة والانتماء: صرخة خوف من الحرية
يتناول الفيلم البعد النفسي للإيمان، مُظهراً كيف تتحول الطائفة إلى آلية دفاع ضد الهشاشة الوجودية. فالناس هنا لا يبحثون عن الله بقدر ما يبحثون عن انتماء ويقين يحميهم من فراغ الحرية؛ ولذلك، فكل حربٍ على أساس العقيدة هي في جوهرها صرخة خوف من هذه الحرية.
كما يُدرك الفيلم أن الذاكرة في المجتمعات المجروحة هي سلاح بقاء. فكل جيل يرث جراح من سبقه. تحاول النساء كسر هذه الدورة بطمس الأخبار وحرق الجرائد، لكن الذاكرة لا تموت، بل تتحوّل إلى كابوس جماعي. مشهد الجنازة في النهاية، حيث لا يعرف أحد إلى أي مقبرة يتجهون، يجسّد شلل الذاكرة: لقد نسي الناس من ينتمون إليه، لكنهم تذكّروا أنهم مختلفون.
ذروة الوحدة: اجتماع الكاهن والإمام
يُعد مشهد اجتماع الكاهن والإمام معاً واستخدامهما مكبرات الصوت لدعوة الأهالي إلى لقاء مشترك، من أقوى المشاهد الرمزية. يقف رجلا الدين جنباً إلى جنب، ويأمران الجميع بالحضور، مؤكدين أن الحل يجب أن يكون مشتركاً وبعيداً عن التعصب. هذا المشهد يختصر رسالة لبكي: وحدة القيادات الدينية ممكنة، ويمكن استخدام الرموز الدينية لتثبيت السلم الأهلي بدلاً من التحريض.
الخاتمة: السينما كأداة شفاء
نادين لبكي لا تهاجم الدين، بل تكشف عن فساد التفسير البشري للمقدس. هي تُصوّر الروح وهي تحاول استعادة نفسها من ركام التعصب، وتجعل من الفعل الرحيم مقياساً للإيمان الحقيقي.
“وهلّأ لوين؟” عمل لا يقدّم إجابات، بل يضع مرآة أمام وعينا الجمعي ليتركنا أمام سؤال مفتوح: هل يمكن للحب أن يكون ديناً؟ وفي هذا الإطار، هل نحتاج إلى إيمان أعظم من إيمان الأمهات اللواتي يقررن إيقاف الحرب.
- – الكاتبة هي: صحافية وناقدة سينمائيّة، محاضرة مُستقلّة في موضوع السينما كأداة للتّغيير الاجتماعيّ، حاصلة على ماجستير بدرجة امتياز في موضوع “ثقافة السينما” من جامعة حيفا.