
حين صارَ المحلِّلُ ثعلبًا… وصارت الشجاعةُ عصفورًا محاصرًا! بقلم: د. وليد العريض
الغابة التي لا يُستجاب فيها الدعاء (30)
كان الصباح في الغابة كئيبًا…
الضباب يزحف بين الأغصان كأفعى عجوز
والريح تحمل رائحة الرماد من جهةٍ تُسمّى زاوية العصافير.
هناك، حيث كانت الزقزقة تغني كلّ فجرٍ للحياة،
صارت الأغصان تصرخ بدل أن تغنّي.
السماء مثقوبةٌ بالقنابل
والأرض مبلّلة بدمٍ طريٍّ يشبه حليب الأمهات حين يُسكب عبثًا على التراب.
وفي أعالي الشجر اجتمعت الثعالب والبوم والغربان…
كلٌّ منهم يحمل في منقاره نظريةً،
وفي جيبه عجزًا مغلفًا بورق التوت.
قال أحدهم، وهو ينفث دخان سيجارته العشبية:
يجب أن نُحلّل الوضع بدقة، فالعصافير متهوّرة جدًا!
ضحكت الغربان وهزّت البوم رأسها موافقةً
وبدأ العرض المملّ: خرائط على الرمل مؤشرات على اللحاء،
وأصوات غليظة تتحدث عن «العبث» و«اللاجدوى» و«المغامرة غير المحسوبة»…
بينما كانت في الأسفل عصافيرٌ صغيرة تحفر التراب بأظافرها لتدفن إخوتها.
…
في كل حربٍ على غابة غزة
تخرج جيوشٌ جديدة، لكن دون بندقية.
جيوش من المحللين والخبراء والمتفلسفين الذين لم يذوقوا رائحة البارود،
ولم يجربوا سوى رائحة القهوة الفاخرة في مكاتب مكيفة…
يتحدثون بوقارٍ مصطنع عن “العبث” واللاجدوى و”المغامرة غير المحسوبة”!
وكأنّ غزة هي التي بدأت حرب الأيام الستة
أو هي من وقّعت اتفاقيات الهزيمة باسم العرب!
يتحدثون من شاشاتهم يلوّحون بأقلام الليزر
يرسمون خطوطًا على الخرائط وكأنهم يُحرّرون القدس من داخل استوديو ملوّن!
يا هؤلاء…
غزة لا تحتاج تحليلكم، فهي مشغولة بابتكار الحياة من بين الموت.
أنتم من تحتاجون إلى التحليل
تحليل بولٍ سياسيٍّ من فرط التخاذل والبلادة!
أنتم تتحدثون عن الكرامة كما تتحدث النعامة عن الطيران.
عن الرجولة وأنتم تهربون من المرآة.
عن الحرية وأنتم أسرى رواتبكم ومقاعدكم ومناصبكم.
أنتم لم تعرفوا الخوف
ولم تعرفوا كيف يقف طفلٌ أمام دبابة بابتسامةٍ تُزلزل الحديد.
في غزّة
الطفل الذي يرمي حجرًا أصدق من ألف مؤتمر
والمرأة التي تخبز الخبز تحت القصف أكرم من ألف متحدثٍ رسميّ.
وفي كل بيتٍ مهدّمٍ هناك نشيدٌ يقول:
لن نموت قبل أن نحيا كما نريد!
بينما أنتم
تتجادلون في صالونات التحليل عن ما بعد الحرب،
وكأنكم تخططون لمستقبلكم المهني لا لمستقبل وطن!
الهدف يا سادة أن تبقى غزة واقفة…
وأنتم جلوسٌ على أرصفة العجز!
الهدف أن يبقى للدم معنى
لا أن تبقى كلماتكم مائعة كجلّ الشعر على رؤوسٍ خاوية من الكرامة!
غزة لا تقاتل من أجل نشرة أخبار
بل لتذكّرنا أننا ما زلنا بشرًا
أن الرجولة ممكنة
والحرية حقّ
والكرامة فطرة!
فاسكتوا قليلاً…
فالصمت في حضرة الدم أشرف من تنظيركم في حضن الذلّ.
غزة ليست حربًا… إنها اختبار.
اختبارٌ للرجولة وللضمير ولمن تبقّى في قلبه نبض.
ومن يرسب في هذا الاختبار
فليذهب إلى مختبره المفضّل
ويواصل تحليل ما يُجيد تحليله
تحليل البول.