8:39 مساءً / 14 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

انتفاضة الأقصى ، ربع قرن من الصمود والذاكرة الوطنية ، بقلم : د. منى أبو حمدية

في الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر عام 2000، اندلعت شرارة انتفاضة الأقصى، لتشكل محطةً مفصلية في مسيرة النضال الفلسطيني الطويلة ضد الاحتلال الإسرائيلي. لم تكن هذه الانتفاضة وليدة لحظة انفعال عاطفي، بل جاءت كنتيجة طبيعية لتراكمات سياسية، واقتصادية، وأمنية، واجتماعية عاشها الشعب الفلسطيني في ظل اتفاقيات سلام لم تجلب سوى المزيد من الاستيطان، والحصار، والهيمنة الإسرائيلية. كان اقتحام “أرئيل شارون” للمسجد الأقصى بحماية جيش الاحتلال بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وحولت حالة الاحتقان الكامنة إلى انتفاضة شعبية شاملة امتدت على كامل الجغرافيا الفلسطينية.


واليوم، بعد مرور خمسةٍ وعشرين عاماً، ما زالت تلك الانتفاضة حاضرة في الوعي الجمعي الفلسطيني، لا بوصفها حدثاً تاريخياً فقط، بل باعتبارها مرجعية نضالية كبرى تعيد التذكير بقوة الشعب الفلسطيني وصموده أمام آلة القمع. هذا المقال يحاول أن يتناول انتفاضة الأقصى من خلال قراءة محاورها الكبرى: شرارتها وظروفها، تكلفتها الإنسانية، سياسات الاحتلال خلالها، أثرها على الهوية والذاكرة الوطنية، وأخيراً ما يمكن استخلاصه من دروسٍ لمستقبل النضال الفلسطيني.


جاءت انتفاضة الأقصى في لحظة تاريخية اتسمت بخيبة أمل فلسطينية عميقة من مسار التسوية السياسية بعد “اتفاق أوسلو”. فقد كان الفلسطينيون يراقبون منذ عام 1993 تمدداً استيطانياً متسارعاً، واستمراراً لسياسات التهويد والتهجير، في الوقت الذي كان يُفترض أن تكون فيه المرحلة الانتقالية طريقاً إلى الدولة الفلسطينية المستقلة.


إلى جانب ذلك، شهدت السنوات التي سبقت الانتفاضة تصاعداً في الاعتداءات على المقدسات، خصوصاً في القدس. وكان اقتحام أرئيل شارون للمسجد الأقصى يوم 28 أيلول/سبتمبر 2000، بحماية آلاف الجنود، استفزازاً سافراً لمشاعر الفلسطينيين والعرب، ومؤشراً على رغبة إسرائيلية في تكريس السيطرة على القدس بكل ما تحمله من رمزية دينية ووطنية.


المسجد الأقصى لم يكن مجرد ساحة صراع ديني، بل كان رمزاً جامعاً للهوية الوطنية الفلسطينية. لذلك، جاء ردّ الشارع الفلسطيني فورياً، ليتحوّل الغضب الشعبي إلى انتفاضة واسعة النطاق، عابرة للفصائل والتيارات، أكدت أن الحقوق الوطنية لا تُختزل في مفاوضات ولا تُؤجّل إلى مراحل مؤجلة.


انتشرت الانتفاضة بسرعة لتمتد إلى كل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، من القدس إلى غزة، ومن نابلس إلى الخليل. لم تكن هناك منطقة خارج نطاق الفعل الشعبي، ولم تقتصر المشاركة على فئة عمرية معينة؛ بل شارك فيها الأطفال، والنساء، والطلاب، والعمال، لتصبح تعبيراً عن وحدة شعبية نادرة.


بلغت حصيلة الانتفاضة، بحسب إحصاءات المؤسسات الحقوقية، حوالي 4500 شهيد وأكثر من 50 ألف جريح، عدا عن عشرات الآلاف من المعتقلين. هذه الأرقام لا تعكس فقط حجم التضحية الفلسطينية، بل تكشف أيضاً عن شدة العنف الإسرائيلي الذي واجه به انتفاضة شعبية.


من بين صور الانتفاضة التي رسخت في الذاكرة الجمعية، استشهاد الطفل محمد الدرة الذي قُتل أمام أعين العالم بينما كان يحتمي بحضن والده. هذه الصورة لم تكن مجرد مشهد مأساوي، بل تحولت إلى رمز عالمي للصمود الفلسطيني، وإلى شاهد على وحشية الاحتلال. لقد جسدت الانتفاضة في صورها اليومية العلاقة غير المتكافئة بين شعب أعزل وقوة عسكرية تملك أحدث أدوات القمع.


لم يكتفِ الاحتلال بالتصدي العسكري للمظاهرات، بل استخدم سياسات متعددة تهدف إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني. تمثلت هذه السياسات في:


⦁ عمليات الاغتيال التي طالت قيادات سياسية وميدانية.

⦁ بناء الجدار الفاصل الذي مزّق أوصال الضفة الغربية، وصادر آلاف الدونمات.

⦁ توسيع الاستيطان في القدس والضفة لتكريس وقائع جديدة على الأرض.

⦁ العقوبات الجماعية من حصار، وإغلاق، وهدم منازل، وحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية.

لكن على الرغم من هذه الإجراءات، لم تفلح إسرائيل في إخماد جذوة المقاومة الشعبية . فقد واجه الفلسطينيون هذه السياسات بأشكال متعددة من النضال:


⦁ المظاهرات اليومية.

⦁ الإضرابات الشاملة.

⦁ توثيق الجرائم بالصوت والصورة، مما ساهم في كشف الاحتلال أمام الرأي العام العالمي.

لقد أظهرت الانتفاضة أن الشعب الفلسطيني قادر على التكيّف مع أقسى الظروف، وأن محاولات الاحتلال لتصفية القضية لن تنجح أمام إرادة شعب يرفض الاستسلام.


أحد أهم إنجازات الانتفاضة كان في المجال المعنوي والرمزي. فقد أسهمت في:
⦁ تعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية: إذ جعلت من المقاومة الشعبية جزءاً لا يتجزأ من وعي كل فلسطيني.

⦁ بناء ذاكرة جماعية: ما زالت الأجيال التي عايشت الانتفاضة تحتفظ بصورها وترويها للأجيال الجديدة.

⦁ إعادة تعريف العلاقة مع الاحتلال: حيث أثبتت الانتفاضة أن الاحتلال لا يمكن أن يكون شريكاً في السلام، بل خصماً يسعى إلى إلغاء الهوية الفلسطينية.

⦁ إنتاج ثقافي وفني: الأدب، والشعر، والفن التشكيلي، والأغنية الوطنية لعبت دوراً محورياً في توثيق أحداث الانتفاضة وحفظها من التلاشي.

وبذلك، لم تعد الانتفاضة مجرد حدثٍ عسكري أو سياسي، بل تحولت إلى ذاكرة وطنية جامعة تذكّر الفلسطينيين بأن الحرية ثمرة صمود طويل الأمد.


تجربة انتفاضة الأقصى تحمل في طياتها دروساً عميقة:


⦁ أهمية الوحدة الوطنية: الانتفاضة انطلقت بشكل عفوي جامع، بعيداً عن الانقسامات الفصائلية، ما جعلها أكثر قوة وتأثيراً.

⦁ قيمة الذاكرة التاريخية: التمسك بالذاكرة هو شكل من أشكال المقاومة؛ فالشعوب التي تحفظ تاريخها قادرة على مواجهة محاولات الطمس والتزوير.

⦁ البعد الإنساني للقضية: صور الشهداء والجرحى والأطفال مثل محمد الدرة جعلت القضية الفلسطينية أكثر حضوراً في الضمير العالمي.

⦁ ضرورة استثمار البعد الثقافي والإعلامي: فالمعركة لم تعد عسكرية فقط، بل هي أيضاً معركة رواية ووعي.

لذلك، فإن إحياء الذكرى الخامسة والعشرين لانتفاضة الأقصى ليس مجرد واجب وطني، بل مسؤولية ثقافية وتعليمية، ينبغي أن تنعكس في المناهج، وفي الإعلام، وفي الفنون، كي تبقى الأجيال الجديدة مرتبطة بتاريخها.
وفي الختام ؛ وبعد مرور خمسةٍ وعشرين عاماً، تظل انتفاضة الأقصى علامة فارقة في التاريخ الفلسطيني. لقد أثبتت أن الصمود الشعبي قادر على مواجهة أعتى أدوات الاحتلال، وأن الذاكرة الوطنية لا يمكن محوها مهما اشتد الحصار أو طال الزمن.


الانتفاضة ليست مجرد فصلٍ في كتاب الماضي، بل هي جزء من حاضر ومستقبل الفلسطينيين، ومصدر إلهام لمواصلة النضال من أجل الحرية. إن استحضار هذه الذكرى اليوم يعني تجديد العهد مع الشهداء والجرحى والأسرى، وتأكيد أن طريق التحرر قد يكون طويلاً، لكنه يظل محفوفاً بالأمل.


فالذاكرة الفلسطينية ليست مجرد أرشيف للأحداث، بل هي قوة فعل تُلهم الأجيال، وتُعيد صياغة الوعي الوطني، وتؤكد أن الحق الفلسطيني لا يسقط بالتقادم. بهذا المعنى، فإن ربع قرن على انتفاضة الأقصى ليس مجرد زمن مضى، بل هو شاهد على أن فلسطين لا تزال حيّة في قلوب أبنائها، وأن الصمود هو خيار الشعب الفلسطيني الذي لن يتنازل عن أرضه وكرامته.

  • – د. منى أبو حمدية – أكاديمية وباحثة .

شاهد أيضاً

وفد اتحاد نقابات عمال فلسطين في لبنان يبحث سبل التعاون الصحي مع إدارة المستشفى التركي في صيدا لخدمة أبناء المخيمات الفلسطينية

وفد اتحاد نقابات عمال فلسطين في لبنان يبحث سبل التعاون الصحي مع إدارة المستشفى التركي في صيدا لخدمة أبناء المخيمات الفلسطينية

شفا – في إطار حرص اتحاد نقابات عمال فلسطين فرع لبنان على تعزيز التعاون مع …