12:48 صباحًا / 5 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

قصيدتان وأغنية ، شعرية الجرح والبحث عن المعنى ، قراءة نقدية في ديوان حياة بن تمنصورت ، بقلم : رانية مرجية

قصيدتان وأغنية ،  شعرية الجرح والبحث عن المعنى ، قراءة نقدية في ديوان حياة بن تمنصورت ، بقلم : رانية مرجية

قصيدتان وأغنية: شعرية الجرح والبحث عن المعنى ، قراءة نقدية في ديوان حياة بن تمنصورت ، بقلم : رانية مرجية

مدخل: الشعر كفعل مقاومة وجودية

في ديوان قصيدتان وأغنية، لا يقدَّم الشعر باعتباره زخرفة لغوية أو بوحاً ذاتياً فحسب، بل كفعل مقاومة وجودية، أداة لمساءلة العالم وكشف هشاشته. الشاعرة حياة بن تمنصورت تكتب وكأنها تقف على حافة هاوية: كل كلمة محاولة للنجاة، وكل صورة صرخة ضدّ العدم. من هنا فإن النصوص ليست قصائد بالمعنى التقليدي، بل شظايا وومضات تنفتح على الوجود بجراحه وأسئلته.

شعرية الصورة: من المحسوس إلى المجرد

من أبرز سمات هذا الديوان أنّ الصورة الشعرية فيه تتحوّل إلى بنية فلسفية. في قصيدة النهايات تقول:

«للنهايات روائح تنبئ بموعدها / يقتفيها عاشق فتغتاله / كزنبقة الوادي يحرقه بياضها»

المجموعة الشعرية لحياة

هنا، النهاية ليست حدثاً زمنياً، بل كياناً حسّياً ملموساً (رائحة، زنبقة، بياض). بهذه الاستعارة، يتحوّل الزمن إلى مادة تحرق، ويتحوّل الجمال ذاته إلى قاتل. هذه الازدواجية (الجمال/الموت) تكشف عن حسّ تراجيدي يتخلل الديوان بأكمله.

وفي الصمت:

«ينفلت المدلول من دالّه على عريها / فينكسر الكلام / ويتعالى الضجيج… ضجيج الصمت»

المجموعة الشعرية لحياة

الصورة هنا لا تصف صمتاً عادياً، بل صمتاً أنثوياً متمرّداً، يتجاوز العدم إلى الانفجار. فالقصيدة تحوّل المفارقة (الصمت/الضجيج) إلى موقف أنطولوجي، حيث القمع يولّد لغة بديلة أكثر صخباً من الكلام نفسه.

الأسطورة كمرآة للذات

يستحضر الديوان الأساطير لا كزينة ثقافية، بل كآليات لتأويل الواقع. في قصيدة نرسيس وقمر نقرأ:

«نرسيس على حافة النهر… حين بحث عن صورته وجدها قمر يطلّ فتطلّ»

المجموعة الشعرية لحياة

نرسيس، رمز الغرور في الميثولوجيا الإغريقية، يتحوّل عند بن تمنصورت إلى رمز للاغتراب: الذات تبحث عن انعكاسها فلا تجد إلا قمرًا، أي انعكاسًا مضاعفًا للغربة. هكذا تنقل الشاعرة الأسطورة من سياقها القديم إلى معادل شعوري معاصر، يعكس أزمة الهوية والبحث عن الآخر.

وفي لوتس وحكاية أخرى:

«خذيني إليك رجلاً بلا ذاكرة / خذيني إلى واحات اللوتس / خذيني إلى الهاوية»

المجموعة الشعرية لحياة

اللوتس، نبات النسيان، يتحوّل إلى استعارة للخلاص عبر الحبّ. لكن هذا الخلاص ليس صعوداً بل سقوطاً في هاوية جديدة. إنّه نسيان قاتل، خلاصٌ بقدر ما هو فخّ. هذا التوتر بين الرغبة في الخلاص والخوف من نتائجه يطبع معظم نصوص الديوان.

وجع الذات وجرح الجماعة

القيمة العميقة لهذا الديوان أنّه يزاوج بين الخاص والعام. فالفقد الشخصي (في قصيدة أبي حيث تقول: «طاقيتك السوداء تحت وسادتي… مازلت أتشمّمها كطفلة»

المجموعة الشعرية لحياة

) يتجاور مع الفقد الجمعي في نصوص عن غزّة، حيث تقول في خيانة:

«قصائد قيد الكتابة… وأنا لست هنا ولست هناك / أشاهد نشرة الأخبار / ولا أموت طويلاً»

المجموعة الشعرية لحياة

بهذه المقاطع، يتحوّل الشعر إلى وثيقة وجودية وسياسية معاً: مرثية للأب الفردي، ومرثية لأبٍ جمعي هو الوطن.

البنية الجمالية: توازن اللمحة والسرد

التكثيف اللمحي: قصائد قصيرة مثل عطش أو شوق تقتنص لحظة عاطفية خاطفة، مكثّفة كوميض.

البنية السردية: في المقابل، نصوص مثل نرسيس وقمر أو فلفيتشيا تأخذ شكل لوحات متتابعة، أشبه بمشاهد مسرحية.

الإيقاع الداخلي: ينهض على التكرار (مطر مطر)، والمفارقة (البدايات مطر/النهايات صلاة استسقاء)

المجموعة الشعرية لحياة

، والقطع المفاجئ.

هذا التنويع يمنح الديوان مرونة أسلوبية تجعله قريباً من القارئ العادي، وفي الوقت نفسه مغرياً للقراءة النقدية المتخصّصة.

البعد الفلسفي: الشعر كسؤال

إنّ الديوان بأكمله ينهض على سؤال: كيف يمكن للشعر أن ينقذ الذات في عالم ينهار؟ في قصيدة وجع الأجنحة تقول الشاعرة:

«حين تولدين أنثى بجناحين / هيّئي نفسك لاغتيال ضجيجك»

المجموعة الشعرية لحياة

إنها ليست مجرد صورة جمالية، بل إعلان عن مأساة اجتماعية: المرأة تولد بجناحين لكن عليها أن تخفيهما. الشعر هنا ليس ترفاً، بل محاولة لاستعادة الطيران الذي سُلب منها.

خاتمة: شعرية العتبة بين الأمل والخذلان

ديوان قصيدتان وأغنية يضعنا أمام نصّ يكتب من على العتبة: عتبة بين الحياة والموت، بين الحلم والخذلان، بين الصمت والضجيج. الشاعرة حياة بن تمنصورت تثبت أن الشعر لا يزال قادراً على أن يكون بيتاً للمعنى، ومقاومة للعدم، وملاذاً للروح في زمن تتكاثر فيه الخسارات.

إنه عمل يتجاوز حدود الشعرية النسوية إلى رحابة الشعرية الإنسانية، عملٌ يحفر في الأسطورة والتاريخ واليومي ليقدّم نصاً يُقرأ على أكثر من مستوى: جمالياً، فلسفياً، وسياسياً. وهذا ما يجعله جديراً بالقراءة والتأمل، بل بالاحتفاء به كإضافة أصيلة إلى المشهد الشعري العربي المعاصر.

شاهد أيضاً

تقرير : رجال أعمال صينيون وسعوديون يعربون عن ثقتهم في آفاق التعاون بين الصين والشرق الأوسط

تقرير : رجال أعمال صينيون وسعوديون يعربون عن ثقتهم في آفاق التعاون بين الصين والشرق الأوسط

شفا – أعرب قادة أعمال صينيون وسعوديون عن ثقتهم القوية في آفاق التعاون بين الصين …