
فلسطينيو سوريا في لبنان: تهجير قاسٍ وصورة مشرّفة من الصمود والإبداع ، بقلم : ناجي العلي
منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، لم يكن الفلسطيني في سوريا بعيداً عن أتون النار والدمار. فكما هو حال السوريين، دفع الفلسطينيون هناك ثمن الحرب غالياً، وتعرضت مخيماتهم، وعلى رأسها مخيم اليرموك، لدمار واسع وحصار خانق، ما اضطر عشرات الآلاف منهم إلى النزوح القسري وترك بيوتهم ومدارسهم وأعمالهم، في رحلة جديدة من التشرد واللجوء.
كان لبنان الوجهة الأقرب والأكثر منطقية للكثيرين، خاصة مع وجود مخيمات فلسطينية قائمة فيه منذ نكبة عام 1948. لكن الدخول إلى لبنان لم يكن نهاية المأساة، بل بداية مرحلة أخرى من المعاناة، إذ اصطدم فلسطينيو سوريا بواقع اجتماعي واقتصادي وقانوني صعب، زاده تعقيداً أنهم لا يحملون صفة اللاجئ السوري، ولا يتمتعون بحقوق اللاجئ الفلسطيني “المقيم أصلاً” في لبنان، ليجدوا أنفسهم في فراغ قانوني يجعل حياتهم اليومية مليئة بالتحديات.
ظروف قاسية ومعيشة صعبة
واجه فلسطينيو سوريا في لبنان مشكلات عديدة، أبرزها صعوبة الحصول على إقامة شرعية، وقيود العمل التي حالت دون انخراطهم في وظائف رسمية، فضلاً عن ارتفاع كلفة المعيشة في بلد يعاني أساساً من أزمات اقتصادية خانقة. أضف إلى ذلك الضغوط السكنية، إذ لجأ معظمهم إلى المخيمات الفلسطينية المكتظة أصلاً، ما زاد من معاناة سكانها.
لكن ما يثير الإعجاب، أن هذه الظروف القاسية لم تنجح في دفعهم نحو الفوضى أو الجريمة أو حتى أي نشاط أمني مشبوه ، على العكس، فقد شكّلوا حالة من الالتزام والانضباط والاحترام لقوانين البلد المضيف وشعبه، رافضين أن تُستغل معاناتهم أو يُزجّ بهم في أي قضايا تخلّ بالأمن أو تسيء لسمعتهم وتسيء لقضية فلسطين .
الإبداع رغم الألم
ورغم أن فلسطينيو سوريا خسروا بيوتهم وممتلكاتهم وحياتهم المستقرة، إلا أنهم حملوا معهم إلى لبنان خبراتهم ومهاراتهم المتنوعة. ففي سوريا كانوا يتمتعون بفرص واسعة في التعليم والعمل، فبرز منهم الأطباء والمهندسون والمعلمون والحرفيون والكتاب والصحفيون وغيرهم ،وعندما وصلوا إلى لبنان، لم يستسلموا للبطالة أو العجز، بل سعوا بكل ما أوتوا من قوة ليبدعوا في مجالات مختلفة.
ففي المخيمات ، تجد من بينهم من أسس مشاريع صغيرة لتأمين لقمة العيش، ومن عاد لممارسة مهنته كنجار أو حداد أو خياط أو معلم، وآخرون أكملوا تعليمهم الجامعي في الجامعات اللبنانية رغم كل الصعوبات.
كما انخرط كثير منهم في العمل الإغاثي والتطوعي، فساهموا في مساعدة إخوانهم اللاجئين الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين المحتاجين على حد سواء.
إنها صورة حقيقية عن الفلسطيني المكافح، الذي يحوّل الألم إلى أمل، والمعاناة إلى فرصة للإبداع والإنتاج، دون أن يسمح للتهجير بأن يسرق منه إنسانيته وطاقته.
احترام لبنان وشعبه
ما يميّز فلسطينيي سوريا في لبنان أنهم كانوا نموذجاً لاحترام البلد المضيف ، لم يسجل ضدهم أي نشاط إرهابي أو مشكلة أمنية كبرى، بل سعوا دائماً للتعايش مع المجتمع اللبناني والتعاون مع مؤسساته، إدراكاً منهم أن لبنان احتضنهم رغم ظروفه الصعبة، وفتح لهم بابه ليجدوا فيه ملاذاً آمناً ولو كان مؤقتاً.
لقد أثبتوا أن همّهم الأساسي هو حماية أسرهم وتأمين مستقبل أولادهم، وليس الدخول في صراعات جانبية لا طائل منها.
ولذلك، بقيت صورتهم مشرّفة في نظر كل من تعامل معهم، وتركوا أثراً طيباً أينما حلّوا.
أمل العودة وحلم الاستقرار
رغم كل النجاحات التي حققها فلسطينيو سوريا في لبنان، يبقى جرح التهجير مفتوحاً.
فهم يعيشون في بلد لا يعتبرونه وطناً دائماً، بل محطة مؤقتة في رحلة اللجوء الطويلة التي بدأت منذ النكبة. حلمهم الأكبر هو العودة إلى فلسطين، حيث لا لجوء ولا خيام ولا قوانين تقيّد حركتهم، بل حياة طبيعية تليق بشعب قدّم تضحيات جساماً من أجل حريته وكرامته.
إلى أن يتحقق هذا الحلم، سيظل فلسطينيو سوريا في لبنان مثالاً للصبر والالتزام والإبداع، ورسالة صادقة للعالم بأن الفلسطيني، رغم كل جراحه، يملك طاقة حياة هائلة وقدرة على التكيف والإسهام الإيجابي في أي مجتمع يعيش فيه.