10:36 مساءً / 23 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

منجد صالح … رحيل القلم الدبلوماسي في زمن انتصار الدبلوماسية الفلسطينية ، بقلم : د. منى أبو حمدية

منجد صالح … رحيل القلم الدبلوماسي في زمن انتصار الدبلوماسية الفلسطينية ، بقلم : د. منى أبو حمدية

منجد صالح … رحيل القلم الدبلوماسي في زمن انتصار الدبلوماسية الفلسطينية ، بقلم : د. منى أبو حمدية


بداية متابعتي للكاتب والدبلوماسي الدكتور منجد صالح كانت مع مجموعته القصصية المميزة “إيسولينا وعجة بالفلفل الأسود” والتي صدرت عن وزارة الثقافة حيث كنت حينها مسؤولة ملف الاداب والمكتبات للوزارة في نابلس، وهنا شدّتني لغته الأنيقة وعمق رؤيته وسلاسة السرد المشبع بالبلاغة. ثم شاءت الأقدار أن أحضر إشهار مجموعتين قصصيتين له في نابلس بمركز يافا الثقافي، هما “سيدة من لاباز” و “سلِّملي على السفارة”. هناك، تقدمت على المنصة وثمنت بكتاباتك وإثرائها للمشهد الثقافي باسمي واسم الثقافة والمثقفين، رأيت الكاتب القريب من الناس، البسيط في حضوره، والعميق في كلماته وسرده.


ولم يكن ذلك اللقاء الأخير؛ ففي معرض فلسطين الدولي للكتاب – الدورة الثانية عشرة – جمعنا لقاء آخر وأطول، حين استمعنا إلى حديثه عن تنقلاته في العالم، مدافعًا عن عدالة قضيتنا ورافعًا صوته باسم فلسطين في كل المحافل الدولية والعالمية. وفي هذه الحرب القاسية على غزة، كان السفير لا يترك يومًا دون أن يرسل لي مقالاته الجديدة عبر الصحف والمواقع الإلكترونية؛ مقالات تحمل وجع الوطن وعنفوانه، وتفيض بالحب لفلسطين وأهلها. واليوم، نفتقده جسدًا، ونفتقد معه الحرف الراقي المفعم بحب الوطن، لا انسى دعمه لي ولكتاباتي؛ فطالما كان يصف حرفي بالقوة والأصالة ومقالاتي بالرصانة والشجاعة.


ما أقسى المفارقات حين يختار الموت لحظته بعناية جارحة!


ففي اليوم الذي دوّت فيه فلسطين بانتصار دبلوماسي جديد، وأزهرت دماء الشهداء في هيئة اعترافٍ أمميّ بعدالة قضيتنا، غاب السفير منجد صالح عن دنيانا!


وكأنه سلّمَ الشعلة في اللحظة التي توهج فيها الضوء ، مضى مطمئنا أن الوطن الذي أفنى حياته في سبيله لا يزال يسير قدماً ، وأن راية فلسطين التي رفعها ستبقى عالية في الأفق.


بدا الرحيل وكأنه طعنة في قلب الثقافة والدبلوماسية ، كأن القدر أراد أن يُذكّرنا بأن الفرح الفلسطيني لا يكتمل أبدًا دون أن يتسلّل إليه الفقد!


رحل “منجد صالح” في اللحظة التي كانت فلسطين بحاجة إلى صوته أكثر من أي وقت مضى، في اللحظة التي كانت كلماته لتشكّل صدى للحدث، ولتضيف إلى النصر طابعاً إنسانيا وأدبياً يجعل العالم يرى فلسطين بوجهها الثقافي والإنساني أيضًا. غاب وهو الذي لم يغب يومًا عن المشهد، عن الكتابة، عن الإيمان بأن النصر قادم، وبأن الحق الفلسطيني لا يُمحى مهما طال الزمن.


رحيله في يوم انتصار فلسطين ليس صدفة عابرة، بل هو مشهد يختصر حكاية هذا الشعب كلّها: يفرح بنصف قلب، ويُشيّع أحبابه بالنصف الآخر. يمضي أحد فرسانه بينما الراية ما زالت مرفوعة. يرحل جسد السفير، لكن صوته يظل حاضراً في أروقة الأمم، في مقالاته الأخيرة التي كان يرسلها بإصرار وكأنه كان يكتب وصيّته لنا: “لا تتركوا الكلمة تسقط، ولا تتركوا فلسطين يتيمة”.


لقد كان منجد صالح رجل التناقض الجميل: يعيش الفرح الوطني بصدق، ويكتب الحزن الفلسطيني بعمق، ثم يتركنا في لحظة تتشابك فيها الدمعة بالابتسامة، والانتصار بالفقد. وكأن رحيله بهذه التوقيت هو رسالة أخرى، رسالة تقول: ” ان فلسطين لا تُحيا إلا بالكلمة، ولا تنتصر إلا بالدمع والعرق والدم معاً “


وُلد الدكتور منجد صالح في نابلس، تلك المدينة التي لا تفارق أبناءها مهما باعدت بينهم المسافات. حمل روحها معه في أسفاره، وجعل من ذاكرته مرآةً لبيوتها وحاراتها وجبالها. ولم ينسَ يومًا غزّة، التي صارت أقرب إلى قلبه حين ارتبط بها بالزواج من ابنتها، فكان وفياً لها كما كان وفيا للوطن كلّه، ابا وأديباً وسفيرا مشهوداً له بالعطاء والإبداع.


ويُعَدّ الكاتب والسفير منجد صالح من الشخصيات الوطنية والدبلوماسية والإبداعية المجتهدة، التي أعطت فلسطين قضيةً وشعبا عمرها كله، بإيمان راسخ ويقين ثابت أن الحق الفلسطيني لن يزول، وأن الزوال حتميّ للاحتلال الغاصب. لم يكن يرى في الدبلوماسية وظيفةً بروتوكولية باردة، بل ساحة نضال أخرى، تماماً كما لم يكن يرى في الكتابة مجرد حروف، بل سهاماً موجهة إلى صدر الباطل. كلماته لم تكن عابرة؛ كانت منارات، تُضيء للجيل القادم الطريق.
رسالة وداع


كنتَ حاضراً دائما في يومياتنا بالكلمة واللقاء، وها أنت تغيب فجأة تاركاً وراءك فراغاً لا يُملأ! كم كان يبهجنا أن تصلنا مقالاتك مع صباحات الحرب، تُضيء لنا وسط العتمة، وتؤكد لي أن صوت فلسطين لا يُكسر! وكم كنا نشعر بالفخر ونحن نراك تنتقل بين المنافي والعواصم، ترفع اسم فلسطين عاليا في سماء العالم وبين الامم.


أودّعك اليوم وأنا أسترجع صورتك في نابلس، في مركز يافا الثقافي، بين الأصدقاء والقرّاء، وأستعيد صوتك في أروقة معرض الكتاب، وأستعيد سردك الراقي في مقالاتك الإلكترونية الأخيرة. أودّعك وأنت الذي لم تدع يوما يمرّ إلا وزرعت فيه أملًا أو كتبت فيه شهادة على زمنٍ جائر.


سلام عليك يا منجد؛ سلام على القلم الذي لم يساوم، على الدبلوماسي الذي لم يتعب، على الكاتب الذي عاش للوطن ومات باسمه. نم قرير العين، فقد تركت لنا إرثاً من الحروف والمواقف يخلّدك في وجداننا، ويمنحنا عزاءً أننا عرفناك، وجلسنا معك، وقرأناك، وسنظل نقرأك ما حيينا.

  • – د. منى أبو حمدية – أكاديمية وباحثة

شاهد أيضاً

فصائل منظمة التحرير في لبنان تدعو لرفع العلم الفلسطيني تجسيداً للوحدة وتشبثاً بالحقوق

شفا – د. وسيم وني ، تثمن قيادة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان المواقف …