10:44 مساءً / 23 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

الاعتراف بدولة فلسطينية ليس منّة… بل حقّ تاريخي ، بقلم : د. وليد العريض

الاعتراف بدولة فلسطينية ليس منّة… بل حقّ تاريخي ، بقلم : د. وليد العريض

حين تعلن تسع دول جديدة اعترافها بدولة فلسطين، يظنّ بعض السطحيين أنّ العالم قد كافأ الفلسطينيين على صمودهم، أو أنّها جائزة تُمنح في مسابقة دولية للدموع. لكن الحقيقة أبعد وأعمق: الاعتراف ليس مكافأة، بل هو حقّ تاريخي مؤجَّل، حُجب طويلًا تحت رماد المصالح وصفقات الأنظمة وخيانات الساسة. إنّه اعتراف بما لا يمكن إنكاره: أنّ فلسطين كانت وستظلّ وطنًا حيًّا، لا ورقة تفاوض ولا ساحة صراع بالوكالة.

درس التاريخ الأول: النصر الذي تلاه خطأ قاتل

في ١٩٤٨ خرج الفلسطينيون والعرب من بيوتهم على أمل عودة قريبة. ثم جاءت ١٩٦٧ لتكشف مأساة أكبر: أن النصر العسكري الجزئي الذي أحرزه العرب في معاركهم الأولى لم يتحوّل إلى إنجاز دائم، بل ضاع مع أوّل هدنة. الهدنة… تلك الكلمة التي بدت يومًا حكيمة، فإذا بها تتحوّل إلى خطيئة تاريخية. فالمنتصر لا يطلب هدنة، ومن يوقف حربًا وهو متقدّم على الأرض يوقّع عمليًا على وثيقة تراجعه. هنا بالذات يتكرّر خطأ صلاح الدين في صلح الرملة، حين سمح للفرنجة بالبقاء في بعض السواحل، فظلّ الجرح مفتوحًا رغم عظمة النصر.

الفرص الضائعة… والخيارات المغشوشة

منذ ذلك اليوم، لم يتوقف العرب عن تفويت الفرص. كان يمكن بناء مشروع وطني فلسطيني حقيقي بدعم عربي كامل، لكن معظم الأنظمة انشغلت بمصالحها، وبعضها ساوم الفصائل الفلسطينية لخدمة أجنداته. تحوّلت الخلافات السياسية بين الأنظمة إلى عداوات داخل الصف الفلسطيني، فانقسمت الفصائل كما تنقسم المرايا المكسورة: كل قطعة تعكس جزءًا صغيرًا من الضوء، لكن لا أحد يرى الصورة كاملة.

كامب ديفيد: إخراج مصر من المعادلة

جاءت كامب ديفيد لتسجّل الضربة القاصمة. فبعد أن كان الجيش المصري خندقًا رئيسيًا في معادلة الصراع، انسحبت مصر إلى سيناء واكتفت بها، وتركت فلسطين جريحة يتناوب عليها الذئاب. صار المشهد: أُمّة مجروحة تُساق إلى مائدة التنازلات قطعة قطعة، فيما الكلب المسعور ينهش من اللحم كل يوم.

سوريا… من هدنة الجولان إلى خراب الشام

لم تكن سوريا أوفر حظًا. هدنة ١٩٧٤ كرّست قاعدة “لا حرب ولا سلم”، نصف قرن من الانتظار الذي انتهى بتدمير دمشق وحلب وخراب الدولة السورية، ليُفتح الباب لإسرائيل كي تبتلع المزيد، لا من الأرض فحسب، بل من روح المنطقة نفسها.

وادي عربة وأوسلو: خطايا الورق

وادي عربة جرّدت الأردن من مسؤوليته المباشرة عن فلسطين، بعد أن كان العمق الطبيعي والامتداد التاريخي لها. وقمة الرباط ١٩٧٤ التي منحت منظمة التحرير صفة “الممثل الشرعي الوحيد”، بدت كهدية ثمينة، لكنها في الحقيقة سلبت إمكانية مشروع وحدوي أردني–فلسطيني كان يمكن أن يشكّل جبهة تحرير صلبة. ثم جاءت أوسلو، الكارثة الأكبر، لتؤكد أن أسوأ الهزائم هي تلك التي تُوقَّع بالأقلام لا بالسيوف. اتفاق بلا ضمانات، بلا سيادة، بلا جيش، بلا حقّ حقيقي. مجرد إدارة ذاتية تحت الاحتلال، فيما الاستيطان يلتهم أكثر من ٦٠٪ من الضفة الغربية.

الاعتراف الدولي الجديد: خطوة… ولكن!

اليوم، ونحن نسمع عن موجة جديدة من الاعترافات بفلسطين، يجب أن نُفرّق بين الحقّ والفخّ. نعم، هو حقّ تاريخي مكتسب بفعل المقاومة وصمود غزة وكشف جرائم الاحتلال للعالم. لكنه قد يتحوّل إلى فخّ إذا رُبط بشروط مهينة: “دولة منزوعة السلاح”، “عاصمة مؤقتة”، أو “حدود مؤقتة”. ففلسطين لا يمكن أن تكون دولة أقل من أي دولة أخرى في العالم. الاعتراف يجب أن يعني سيادة كاملة، جيشًا، حدودًا، سماءً، وبحرًا. غير ذلك ليس إلا نسخة جديدة من أوسلو بوجه ملوّن.

الدور العربي المفقود

القضية الفلسطينية لن تنتصر إذا بقيت رهينة الأنظمة العربية الضعيفة أو الخائفة. لكنّها ستبقى قوية إذا ظلّت قضية فلسطينية–أردنية مشتركة في السياسة الدولية، كما هي على أرض الواقع. فالأردن ليس جارًا لفلسطين فقط، بل هو شريك في الدم والجغرافيا والتاريخ. والشام ومصر والعراق واليمن هي السور الطبيعي لها. أما باقي الدول العربية فهي خط الدفاع الثاني: سياسيًا، ماليًا، ودبلوماسيًا.

السياج العقائدي والإنساني

فلسطين ليست قضية سياسية فقط، بل قضية عقائدية أيضًا. فهي جزء من الإيمان الإسلامي والمسيحي الشرقي. القدس مصلّى المسلمين وكنيسة المسيحيين معًا، وهي بوصلة الضمير العالمي. وقد أثبتت الشعوب الحرة في العالم، من أمريكا اللاتينية إلى أوروبا، ومن إفريقيا إلى آسيا، أنها السياج الإنساني الحقيقي لفلسطين. هذه الشعوب صرخت في الشوارع، فيما بعض العواصم العربية بقيت صامتة كجثث هامدة.

الفساد… العدو الخفي

لا يكفي أن نطالب باعتراف دولي أو نلعن الاستيطان ليل نهار. يجب أن نُطهّر المشروع الوطني الفلسطيني من الفساد والعمالة والتبعية. فما جدوى أن يهتف العالم “فلسطين حرّة” إذا كانت الفصائل تتناحر على مقاعد السلطة الوهمية؟ ما قيمة التضامن العالمي إذا كان بعض القيادات الفلسطينية يبيعون دماء الشهداء على طاولة التفاوض؟

الخاتمة: بين الحق والواجب

الاعتراف الدولي بفلسطين اليوم ليس منّة من أحد، بل هو خطوة جاءت متأخرة بفعل المقاومة وكشف جرائم إسرائيل أمام العلن. لكنّها ليست نهاية الطريق. إنّها بداية اختبار جديد: هل نستطيع أن نحوّل هذا الاعتراف إلى مشروع تحرير حقيقي، أم سنكرّر خطايا الهدنات واتفاقيات الورق؟

فلسطين ستبقى، من النهر إلى البحر، قضية إنسانية وحضارية وعقائدية قبل أن تكون سياسية. هي حقّ لا يُهدى، بل يُستردّ. والعالم قد يعترف، لكنّ النصر الحقيقي يصنعه شعب قرر أن ينهض، وأمّة قررت أن تكسر قيد الخوف.

فلسطين لا تنتظر الشفقة، بل تنتظر مشروعًا وطنيًا نقيًا، صادقًا، خاليًا من الشوائب، يقودها إلى الحرية الكاملة. وعندها فقط، يصبح الاعتراف الدولي مجرّد تحصيل حاصل أمام حقيقة لا يمكن إنكارها: أنّ فلسطين حرة، وستظل حرة، ما دام في هذه الأمة قلب ينبض.

شاهد أيضاً

فصائل منظمة التحرير في لبنان تدعو لرفع العلم الفلسطيني تجسيداً للوحدة وتشبثاً بالحقوق

شفا – د. وسيم وني ، تثمن قيادة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان المواقف …