12:45 مساءً / 22 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

فلسطين معشوقتي التي أتعبتني ولم تتركني ، لوحة الفنان محمد الدغليس ، بقلم : د. وليد العريض

فلسطين معشوقتي التي أتعبتني ولم تتركني ، لوحة الفنان محمد الدغليس ، بقلم : د. وليد العريض


منذ خيمة 1948 وأنا ألاحق صورتكِ: خرجنا من منازل تغصّ بالزيتون والبرتقال، تركنا الأبواب مفتوحة على انتظارٍ لا يعود. نصبنا الخيام، وعلّقت الجدات أسماء القرى على الشفاه كما يعلّق العاشق اسم محبوبته في قلبه. وهكذا بدأت تغريبتنا التي لم تنتهِ.

جاء حزيران 1967 ليفرّغ منازلنا من الناس ويضاعف الجرح؛ رأيتكِ في عرباتٍ صغيرة تحملنا كأمتعةٍ منسية وفي عيون الأطفال انعكاس زرقة البحر. السؤال كان دائمًا: هل نهرب منكِ أم نعود إليكِ؟ لكننا لم نهرب منكِ، بل من جلادينا وبقيتِ فينا جرحًا وعشقًا لا يُمحى.

الغربة امتدت داخل الوطن العربي: في عمان واربد والسلط ودمشق وبيروت وبغداد، وفي كل مدينة احتضنتنا واحتوت وجعنا. ومع ذلك، كنتِ أقرب ما تكون في رائحة القهوة، في وجوه المارة، في أصوات الباعة. صار الصباح عندي عبارة عن ذاكرتين: عين ترى الأردن، وأخرى تترقب فلسطين؛ نبضان يقسمان وجودي بين خريطتين تلتقيان فيكِ.

لم نتخلَّ عنكِ. ذاكرتكِ تتجدد يوميًا في وجدان الأطفال قبل أن يتعلموا هجاء الأبجدية. حملنا تراثكِ في أغانينا وزغاريد أعراسنا وتطريز أثوابنا. وحبكِ، رغم قسوته، أطلق فينا حياةً متجددة: صُرنا الأكثر خصوبة في العالم، كأن العشق بكِ يُثمر وجودًا جديدًا رغم الحصار والجوع.

أحببتكِ كما يحب الرجل امرأةً مريضة يرفض ترك سريرها: أنتِ جرحي وشفائي، سجني وحريتي، عذابي وخلاص روحي. كلما ناديتكِ شعرت أني لا أخاطب أرضًا بل امرأةً تسكنني؛ لستِ جغرافيا ولا حدودًا على الورق، بل قلب نابض وجسد غائب. أحاول أن ألمسكِ بكلمة، أغازلكِ بصوتٍ مرهق، أحتضنكِ في الحلم، لكن في الصحو أجدكِ بعيدة كنجمةٍ لا تُطال. ومع ذلك، كلما أنهكتني غربتي عدتِ دوائي، تذيبين وجعي وتعيدينني إلى نفسي.

الحياة في المخيمات والنزوح ليست مجرد تاريخ حزن؛ هي أيضًا قصيدة حب طويلة ومقاومة يومية. كتبناها بالدمع والدم والأغاني وبالعناق والولادة والقصائد. الحب هو سر بقائنا وفعل مقاومتنا الأخير. يقولون إنكِ ستنهارين؛ فأجيب إننا الأقل انتحارًا لأننا الأكثر حبًا. الحب يمنحنا القدرة على البقاء، ويحوّل الألم إلى إمكان للبقاء والصمود.

أنا عاشقكِ المتعب الذي لا يهدأ. قد يثقل الجسد، وقد تنحني الذاكرة، وقد تتشقق الروح من طول البعد، لكن قلبي لا يعرف الفكاك منكِ. من خيمة 1948 إلى نزوح 1967 ثم حتى اليوم، لم تكن تغريبتنا رحلة موت فقط، بل حكاية عشق متعبة ودامية لا تُمحى. سأظل أحبكِ حتى يتعب الحبّ، لكنه—مثلي—لن يموت.

شاهد أيضاً

توقيع أكثر من 500 اتفاقية اقتصادية وتجارية في معرض الصين - الآسيان

توقيع أكثر من 500 اتفاقية اقتصادية وتجارية في معرض الصين – الآسيان

شفا – اختتمت فعاليات معرض الصين-الآسيان الـ22 وقمة الصين-الآسيان للأعمال والاستثمار في مدينة ناننينغ حاضرة …