
لا تنسوا الفضل بينكم: الكاتب والإعلامي زياد الجيوسي ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾… آية قرآنية كريمة لم تكن يوماً مجرّد كلمات عابرة، بل هي روحٌ نعيشها حين نستحضر من رحلوا تاركين خلفهم بصمات لا يبهتها الزمن، وفضائل تبقى محفورة في وجداننا مهما تقادمت الأيام. وها أنا أكتبها اليوم والقلب ينوح، وقد أثقلته فاجعة الرحيل، رحيل الأستاذ الإعلامي والكاتب الفلسطيني زياد الجيوسي، ذاك الرجل الذي كان وجهاً من وجوه الإشراق الثقافي، وصوتاً يقطر بالصدق والالتزام، وحضوراً لا يُشبه إلا السنديان الفلسطيني الراسخ في تراب الوطن.
تلقيت خبر رحيله ببالغ الحزن والأسى، فإذا بالحبر يختلط بالدمع، وإذا بالذاكرة تستحضر صورته النقية، وصوته الهادئ، وحديثه الذي كان ينساب في القلب كجدول ماء رقراق يشقّ العطش الروحي ويمنحنا شربة أمل. لقد كان زياد الجيوسي إنساناً نبيلاً، عميقاً في معناه، صافياً في جوهره، لا يعرف سوى الكلمة الصادقة، والموقف النبيل، والعطاء الذي لا ينتظر جزاءً ولا شكوراً.
وما يزيد الوجع مرارة أنّ لقائي به كان أولاً وآخراً في حفل إشهار كتابي المشترك “نقرأ بإبداع.. نكتب بحب” مع الأستاذ والأخ رائد عساف. هناك، في ذلك المشهد الثقافي المضيء، جمعتنا الكلمة، وتقاطعنا على حب الوطن، وحدّثني يومها عن أعمالي وكتاباتي بحبٍ أبويّ، وأثنى على الجهد المبذول في الكتاب بروحٍ مشجّعة، وابتسامةٍ ملؤها الإيمان بالشباب وبالمستقبل. لم يكتفِ بذلك، بل أهداني من مؤلفاته وتحدث عن تجربته الشعرية والأدبية، وراح ينثر أمامي بعضاً من أحلامه القادمة، ثم قال لي بابتسامة الواثق: “سأعود بعد أشهر قليلة إن شاء الله”. لكنه رحل قبل أن يعود، وكأن ذلك اللقاء كان وداعاً أخيراً، مزداناً بروحه الجميلة، وموشوماً بتواضعه الجمّ.
أيها الراحل الكبير… رحمك الله رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، وجعل مقامك رفيعاً مع الصديقين والشهداء. لقد كنت أيها العزيز مدرسة في الإنسانية، وقامة ثقافية وفكرية بارزة، وقلباً نابضاً بالحب لفلسطين. لقد فقدت بك فلسطين والأمة العربية علماً من أعلامها، ومثقفاً نادراً ظل وفياً للهوية، مخلصاً للكلمة، ملتزماً برسالة الثقافة كجسرٍ بين الماضي والحاضر، وبين الأجيال والذاكرة الجمعية.
لقد كنتَ، يا زياد، كالسنديانة الفلسطينية التي تظلّل كل من يقف تحتها؛ ثابتاً في المواقف، وفيًا في الرفقة، مشرقاً في الفكر. كنتَ تكتب بقلمك كأنك تحفر نقشاً خالداً على جدار القدس، وتبني بالحرف بيتاً يأوي كل عاشقٍ لفلسطين. لم تكن كلماتك مجرّد نصوص مطبوعة، بل كانت أرواحاً تسكن الورق، وتنهض كلما قرأها عاشقٌ للحرية أو متشبّثٌ بالأرض.
إنّ رحيلك يوجعنا، لكنه في الوقت ذاته يذكّرنا أن الأثر الطيب أبقى من الجسد، وأن الإنسان يُقاس بما يتركه خلفه من ذكرٍ جميل وعطاء صادق. سيبقى اسمك حاضراً في ذاكرة المثقفين، وفي سجلات الأدب الفلسطيني، وفي قلب كل من عرفك أو قرأ لك. ستظلّ حيًا بيننا، في كل كتاب ألّفته، وفي كل مقالة كتبتها، وفي كل موقف وقفته دفاعًا عن الوطن والثقافة والإنسان.
وداعاً أيها الأستاذ الفاضل، وداعاً أيها الأديب المخلص… سلامٌ عليك يوم ولدت، ويوم كتبت بقلمك الصادق، ويوم رحلت، ويوم تبعث حيّاً بين الخالدين. ستبقى حياً في قلوبنا بما زرعته من محبة وخير، وسيبقى ذكرك نوراً يهتدي به السائرون في درب الكلمة.