
قراءة لقصيدة “حربٌ وَ فَقد” للمبدعة سمر الكرد ، بقلم: رانية مرجية
١. المدخل الوجداني
حين قرأت نص “حربٌ وَ فَقد” شعرت أني لا أقرأ قصيدة، بل أفتح جرحاً غائراً في الروح. النص لا يتعامل مع الحرب كخبر يومي أو حدث سياسي، بل يجعلها كائناً يعيش بيننا، يتنفس داخل صدورنا، ويقتات من دموعنا. سمر الكرد لا تكتب عن غزة فقط، بل تكتب عن الإنسان في لحظة انكساره الأقصى، لحظة التحامه بالموت والتحامه بالحياة في آنٍ معاً.
٢. البعد النفسي
من الناحية النفسية، النص يعبّر عن حالة الفقد المتكرر التي يعيشها الفلسطيني، حيث تتحول الصدمات إلى نمط حياة. الموت هنا ليس حادثة عابرة، بل “مستوطِن” يرسخ في القلوب. هذا التوصيف يحمل أبعاد الصدمة الجمعية التي تجعل الفرد الفلسطيني يعيش فقداً مزمناً، يتنفسه مع كل شهيد جديد، ومع كل بيت ينهار.
اللاوعي الجمعي يطل في صور مثل:
• “نحمل بقايانا في سلات من قش”: رمز لوجود هشّ، لكنه محمول بحرص شديد، وكأنه كنز.
• “معاول الشوق تحفر أجسادنا”: تجسيد للحزن العاطفي كألم جسدي، يشي بتداخل الجسد والنفس في لحظة الفقد.
٣. البعد الوجداني – الشعور المزدوج
النص يحرّك في القارئ ازدواجية غريبة:
• من جهة، إحساس خانق بالثقل والحزن، كأن القصيدة نفسها مقبرة.
• ومن جهة أخرى، شعور بالفخر والصمود، حيث الحكايات والأساطير تنبت من بين السنابل.
هذه الازدواجية هي ما يجعل النص قريباً من البنية الوجدانية الفلسطينية: بكاء وأمل، فقد وحياة، موت وولادة.
٤. البعد الرمزي والأسطوري
سمر الكرد تبني نصها على شبكة رمزية غنية:
• المقابر = أرشيف الذاكرة الوطنية.
• الأمهات = أيقونات الحزن والصبر المقدس.
• السنابل والبيادر = رموز الحياة المستمرة رغم المحو.
• الغيم والأغنيات = الذاكرة الطاهرة، الأمل المؤجل.
• شالات الجميلات الملطخة بالدم = التقاء الجمال بالوجع، الأنوثة بالمقاومة.
بهذا، تتحول القصيدة إلى أسطورة صغيرة، حيث الأرض نفسها تصبح بطلة تقاوم، وتتحول الحكاية إلى نشيد مقاوم يواجه محاولات الطمس.
٥. البعد الاجتماعي والسياسي
من الناحية الاجتماعية، النص هو شهادة عن النكبة المتكررة: موت جماعي، بيوت مهدمة، دماء في الأزقة. لكنه أيضاً يصرخ في وجه “العبور” – أولئك الذين يتخطون حدود الوطن ولا يلقون السلام على مقابر القلوب. هذا المقطع بالذات يضع القارئ أمام مسؤولية أخلاقية: أن لا ينسى، أن لا يتجاهل دموع الأمهات ولا يظلم السنابل.
٦. البعد الجمالي
أسلوب سمر الكرد يتسم بكثافة الصور، وغلبة الأفعال الحسية (“نحمل”، “تحفر”، “عوَت”، “تعثّر”). هذه اللغة تمنح النص طابعاً ديناميكياً متوتراً يوازي ديناميكية الحرب نفسها. كل صورة في النص تحمل طاقة وجدانية مكثفة، تجعل القارئ يشارك التجربة لا كمتفرج، بل كفاعل داخلها.
٧. الخاتمة – الصراع مع الحزن
أكثر ما شدّني هو الخاتمة، حيث يصبح الحزن شخصاً يُخاطَب مباشرة:
“أيَاحُزناً اجتاحَ سُفنَ أفئدتنا … ارحل”
هذا النداء يكشف عن رغبة عميقة في التحرر، لكنه يشي أيضاً باليأس من إمكانية الخلاص. هنا تتجلى المفارقة النفسية: الفلسطيني يريد للحزن أن يرحل، لكنه يعرف في قرارة نفسه أنه باقٍ، مثل الحرب ذاتها.
كلمة أخيرة
قصيدة سمر الكرد ليست نصاً عادياً؛ إنها مسرح وجداني – نفسي يعرّي الروح، ويُدخل القارئ في تجربة فقد جماعي. لقد استطاعت الشاعرة أن تحوّل الحرب من حدث دموي إلى لغة وجودية، وأن تكتب الفقد لا كحزن فردي، بل كهوية جمعية.
بهذا المعنى، أستطيع القول إن “حربٌ وَ فَقد” ليست قصيدة فقط، بل مرآة نفسية – وجدانية – أسطورية لروح فلسطين، نص يرسّخ أن الشعر يمكن أن يكون سلاحاً، وذاكرة، ووطناً بديلاً