
الأستاذ الباحث رجائي عماد الدرابيع … ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
ما أجمل أن يترك الإنسان في دروب الحياة أثراً طيباً يسبق اسمه، ويظلّ شاهداً على نقاء قلبه وصفاء سريرته، كعطرٍ يظل عالقًا في الذاكرة بعد أن يغيب صاحبه، أو كنخلةٍ باسقةٍ تورث ظلها وطيب ثمرها لمن يمرّ بجوارها. وما أبهى أن يكون ذلك الأثر مرسوماً بسواعد الشباب الفلسطيني الذين يرحلون عن أرضهم مكرهين أو باحثين عن العلم، فلا يحملون من الغربة سوى حقيبة كتب، وقلب نابض بالوفاء، وروح تقاتل بعلمها كما يقاتل الأبطال بسلاحهم.
ومن بين هؤلاء الشباب الذين أفاخر بمعرفتهم، بل وأعدّهم من زاد رحلتي، الباحث الأستاذ رجائي عماد الدرابيع، ذاك الشاب الذي جمع بين رصانة العلم، وبهاء الخُلق، وشهامة الرجال، حتى غدا بحقّ واحداً من النماذج النادرة التي يُباهي بها المرء، ويشهد لها كل من عرفها بأنها عنوان للمروءة والوفاء.
لقد تعرّفت على رجائي في محطةٍ مفصليةٍ من حياتي، يوم قصدت ماليزيا للمناقشة النهائية لأطروحتي العلمية. وهناك، في تلك الغربة التي تختبر الصبر وتكشف معادن النفوس، كان هو وأخته الكريمة بمثابة الأهل الذين يعيدون للغربة دفءَ الوطن. لقد كان سنداً حقيقياً، لا يملّ ولا يتوانى، يمدّ يد العون في كل تفصيل، من أكبر الإجراءات إلى أصغرها، حتى بات وجوده يخفف عني مشقة الغربة ويجعل الطريق أيسر وأجمل.
وما أعظم أن تجد في طريقك من يقف معك دون أن يطلب شيئاً، ومن يمنحك وقته وجهده وكأنه يمنحك جزءاً من نفسه. كان رجائي بالنسبة لي أكثر من أخ صغير أو ابن بارّ؛ كان روحاً نقية تُشعرك أن الخير ما زال حاضراً في هذه الدنيا، وأن الأصل الطيب لا يغيّبه مكان ولا يطمسه زمان.
ومرت الأيام، وحصلت على ما سعيت إليه من علم وتخرجت، فإذا به لا يزال وفيّاً كما عهدته، لا يعرف التراجع عن المساعدة ولا يكلّ من العطاء. حتى في إجراءات استلام الشهادة وإتمام التخرج، كان هو الحاضر الدائم، يسهّل ويدعم ويساند، وكأن رسالته في الحياة أن يكون أثراً طيباً في حياة الآخرين. وزاد الفخر يوم نشرنا أول بحثٍ علمي مشترك، ليصبح العمل شاهداً على أن العلاقة التي جمعتنا لم تكن مجرد لقاء عابر، بل رباط علمي وإنساني خالد.
واليوم، وأنا أراه يواصل طريقه في ماليزيا، يدرس الماجستير ويعمل محاضراً في إحدى الجامعات المرموقة، تملؤني مشاعر الاعتزاز. فهو يمثل النموذج الأصدق للشاب الفلسطيني الذي لم يُثنه البعد عن وطنه عن حمل رسالته، بل جعل من غربته ميداناً للنضال العلمي، ومن علمه سلاحاً يُباهي به وطنه وأمته. إنه ابن فلسطين البار، الذي لم تنسه الغربة أهله وأحبابه، ولم تُغره الدنيا عن قيمه ومبادئه، بل ظلّ وفيّاً صادقًا، يحمل الأخلاق كما يحمل المعرفة، ويمنح الوفاء كما يمنح العلم.
إن ما زرعه رجائي في حياتي من أثر هو الدليل الأجمل على صدق المقولة: “إنما الإنسان أثر”. فالأثر الحق لا يُكتب بالحبر، بل يُكتب بالمواقف النبيلة، ولا يُحفر على الورق، بل يُنقش على القلوب.
فطوبى لك يا رجائي بما غرست من خير، وما تركت من بصمة، وما نسجت من وفاء. ستظل قدوةً مشرفة لشباب فلسطين، وذكرى طيبة لا تمحوها السنين، وأثراً خالداً ما دام للإنسانية معنى وما دام للعلم بقاء.