
عندما نختار الصمت كمنهج حياة ، بقلم : رانية مرجية
ليس الصمت غيابًا للكلام، بل حضورًا من نوع آخر. هو لغة الروح حين تعجز الألسنة عن البيان، وهو المساحة التي نلتقي فيها بذواتنا بعيدًا عن صخب العالم وضجيجه. أن نختار الصمت كمنهج حياة، يعني أن نرتقي فوق الغرابة العابرة للكلمات، وأن نؤمن بأن المعنى لا يُقاس بوفرة الأصوات، بل بعمق السكون الذي يحتضنها.
الصمت مرآة، تعكس للإنسان صورته الحقيقية حين ينزوي عن أعين الآخرين. في لحظة الصمت، تُسقط الأقنعة، وتتكشف الحقائق، وتعود النفس إلى أصلها الأول: نقية، متأملة، قادرة على التمييز بين ما يستحق أن يُقال، وما يجب أن يُدفن في أعماقها. ومن هنا، يصبح الصمت ليس موقفًا عابرًا، بل منهجًا يوجّه حياتنا نحو الصفاء والوعي.
لقد أدرك الحكماء منذ القدم أن الكلمة تُبنى بها القصور وتُهدم بها الأمم. لذلك رفعوا من شأن الصمت، ورأوه فضيلة تسبق الكلام، وقيمة تحرس الحكمة. فالصمت يمنح العقل فسحة للتأمل، ويعطي للقلب فرصة ليهدأ، ويترك للزمن حق الإجابة عن الأسئلة التي تعجز الكلمات عن حلها.
وعندما يتحوّل الصمت إلى خيارٍ دائم، فإنه يُصبح قوة لا يملكها إلا الناضجون. قوة قادرة على كبح الغضب، وردع الانفعال، وحماية الإنسان من الوقوع في أسر كلمة قد تُفلت فتُغير مصيره أو مصير غيره. فالصمت في موضعه أبلغ من خطب، وأكرم من جدال، وأصدق من مئات الاعتذارات التي تأتي بعد فوات الأوان.
إن أعظم ما يقدّمه لنا الصمت، أنه يعيد ترتيب العالم في داخلنا. يعلمنا أن نصغي أكثر مما نتكلم، أن نرى ما وراء الوجوه، ونشعر بما بين السطور، ونفهم أن ليس كل ما يُعرف يُقال. عندها فقط ندرك أن الصمت ليس عزلة، بل امتلاء بالمعنى، وأنه ليس انسحابًا من الحياة، بل انغماسًا أعمق فيها.
فلنجعل من الصمت فلسفة للوجود، لا هروبًا من الكلمة، بل سعيًا إلى أن تُصبح الكلمة أكثر صدقًا حين تُقال. فالكلمة المولودة من رحم الصمت تخرج نقية، قادرة على أن تترك أثرها في القلوب، وأن تُصغي لها الأرواح كما يُصغي العطشان إلى قطرة ماء