حين يصرخ الحرف في وجه الاستعمار ، بقلم : سماحه حسون

حين يصرخ الحرف في وجه الاستعمار ، بقلم : سماحه حسون

القصيدة ليست مجرد كلمات تُحاك على ورق، وليست مجرد نغمٍ يتردد في أذن قارئ عابر. هي دمٌ يسري في العروق، ونارٌ تتقد في الروح، وسلاحٌ يصدّ عن الأرض والهوية كل يد تسعى للطمس أو الاستلاب. حين يقف المستعمر على حدود مدننا وقلوبنا، ليست الأسلحة وحدها ما يواجهه، بل الحروف، الأبيات، النبض الشعري الذي يرفض الانحناء.

أتذكرُ حين كنتُ طفلاً، أستمع إلى جدتي تحكي عن يوم دخل الاحتلال قريتنا، كيف حاولوا محو لغتنا وأغانينا، وكيف أن شيخ الحي رفع صوته بشعرٍ عن الزيتون والأرض، لتقف القلوب صفًا واحدًا، لتشعرنا أننا لا زلنا هنا، أننا لا زلنا نملك حروفنا وهويتنا. هذا الحرف كان أقوى من الرصاص، لأن الرصاصة تمحو الجسد، والحرف يخلّد الوجود.

القصيدة في مواجهة المستعمر هي تحدٍ للخراب والتطبيع الثقافي، هي شعور متجذر في كل منا، يعبر عن الألم والمعاناة، لكنه لا يركع. نحن نقرأ عن الشاعر الفلسطيني الذي وقف أمام الدبابات بكلمة، عن قصيدة تُقرأ في السجون عن الوطن، عن أبيات تُنقش على الجدران المهدمة لتخبر العالم أن الأرض لن تُنسى. كل بيت مقاوم يحمل ذاكرة شعب بأكمله، ويصبح شهادة حية ضد محاولات الطمس والنسيان.

ليس المهم أن تكون القصيدة طويلة، فحتى البيت الواحد قادر على إشعال ثورة في القلب، كقصيدة كتبها شاعر في غزة عن طفل يلهو فوق ركام بيته، عن نبتة الزيتون التي رفضت أن تموت، وعن أمٍ تبكي وتهمس للريح: “تذكّرهم أني هنا، وأن ابني هنا، وأن الأرض هنا”. هذا هو جوهر المواجهة: الحرف كمرآة للوجع، وكوسيلة لصنع المستقبل.

القصيدة ليست هروبًا من الواقع، بل تسليط ضوء على الحقيقة المرة، وتحويل الألم إلى إبداع، والخوف إلى صرخة جمالية صادقة. كل كلمة فيها تحمل صدى الحكايات اليومية، من أصوات الأطفال في الحارات المحاصرة إلى أنين النساء اللواتي فقدن منازلهن، ومن دفاتر المدرسة التي صودرت إلى الشوارع التي لم تزل تنبض بالذكريات.

وفي النهاية، يبقى الحرف المقاوم بوابة مفتوحة على المستقبل. المستعمر يزول، والرصاص يصدأ، لكن الشعر يظل حيًّا في النفوس، يزرع الأمل ويذكّر بأن الهوية ليست للبيع، وأن الأرض لا تُنسى. فلتظل القصيدة صرخةً في وجه الطغيان، ورمزًا للكرامة التي لا تنكسر، وللحقيقة التي لن تموت أبدًا.

سماحه حسون