
ما حقيقة الموقف الأميركي من العدوان الإسرائيلي على قطر ؟ بقلم : د. ماهر الشريف
يبدو أن العدوان الإسرائيلي على قطر، في التاسع من أيلول/سبتمبر الجاري، لم يحقق الأهداف المرجوة منه، إذ يشير بعض التقارير إلى أن قادة حركة “حماس” الرئيسيين المستهدفين غادروا الغرفة التي استهدفتها الطائرات الإسرائيلية، تاركين هواتفهم على الطاولة، وهو ما ضلل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، التي اعتمدت على الإشارات الإلكترونية الصادرة عن هذه الهواتف. ومع ذلك، فقد استشهد في العدوان، ستة أشخاص هم نجل القيادي خليل الحية، ومدير مكتبه وثلاثة من حراسه الشخصيين، فضلاً عن ضابط أمن قطري. كما أشير إلى إصابة اثنين من قادة الحركة بجراح (1).
بيد أن السؤال الذي شغل بال المحللين وحيّرهم هو ما حقيقة موقف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من هذا العدوان، وخصوصاً بعد صدور تصريحات متناقضة بشأن ذلك من الإسرائيليين والأميركيين على حد سواء، وبروز التباس بشأن تبادل المعلومات حول هذا الهجوم وحول كيفية وقنوات وتوقيت إبلاغ واشنطن بالعملية؟.
هل أعطت إدارة ترامب الضوء الأخضر للعدوان؟
خلافاً لمزاعم بنيامين نتنياهو بأنه أعطى أوامره بتنفيذ عملية “قمة النار” التي استهدفت قطر عقب الهجوم الفلسطيني الذي وقع في مدينة القدس، يوم الاثنين في الثامن من هذا الشهر، ونفذه شابان لا علاقة لهما بأي فصيل، فإن من المؤكد أنه قد جرى التخطيط لهذه العملية منذ شهور عديدة، وكانت موضوع اجتماعات أسبوعية محدودة للغاية بين عدد من المسؤولين الأمنيين ورئيس الوزراء الإسرائيلي، وبالتالي لا يمكن أن تكون الإدارة الأميركية بعيدة عن هذا التخطيط. وبينما صرح مسؤول كبير في البيت الأبيض لوكالة “فرانس برس” أن واشنطن تلقت تحذيراً من إسرائيل، أكدت مصادر إسرائيلية وأميركية، لم تكشف عن هويتها، أنه نظراً لأهمية العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة، والعلاقات القائمة بين واشنطن والدوحة من جهة أخرى، فإن من المُستبعد جداً أن يكون هذا الهجوم الإسرائيلي ممكناً لولا موافقة دونالد ترامب عليه، وخصوصاً أن الرئيس الأميركي كان وجّه قبل يومين من وقوعه “إنذاراً أخيراً لحماس، حثّها فيه على قبول اقتراحه”، وكتب على موقعه الإلكتروني: “لقد حذّرتُ حماس من عواقب الرفض، وهذا تحذيري الأخير، ولن يكون هناك غيره!” (2).
من جهة أخرى، نقلت “القناة 12” الإسرائيلية وموقع “واي نت نيوز” عن مسؤول إسرائيلي تأكيده أن واشنطن “أُبلغت قبل الضربة، وأن ترامب أعطى الضوء الأخضر للعملية”، في حين أشار موقع “ميدل إيست آي” إلى أن الغارات الجوية في الدوحة كانت “مُنسّقة مسبقاً مع الإدارة الأمريكية”. وقالت شبكة “CNN” الأميركية، نقلاً عن مسؤول إسرائيلي، إن الولايات المتحدة “أُبلغت قبل الضربة على قطر” (3).
مواقف أميركية متضاربة إزاء العدوان
وصف الرئيس الأميركي الهجوم الإسرائيلي بـ “الحادث المؤسف”، وكتب على موقع التواصل الاجتماعي الخاص به: “أن قرار تنفيذ الهجوم على قطر اتخذه رئيس الوزراء الإسرائيلي وليس هو”. ومساء الثلاثاء في التاسع من هذا الشهر أعلن، خلال حديث مقتضب مع الصحافة قبل توجهه لتناول العشاء في مطعم قرب البيت الأبيض: “أنا مستاء للغاية”، وأوضح أن الولايات المتحدة “حذرت قطر، لكن التحذير وصلهم للأسف متأخراً جدًا لوقف الهجوم”. أما المتحدثة باسم الرئاسة كارولين ليفيت، فقد ذكرت أن “القضاء على حماس يُعد هدفاً جديراً بالثناء”، إلا أن الضربة التي استهدفت قطر جعلت الرئيس “منزعجاً للغاية”، ذلك إن “قصف قطر من جانب واحد، وهي دولة ذات سيادة وحليف وثيق للولايات المتحدة تعمل بجد وشجاعة وتخاطر للتفاوض على السلام [في غزة]، لا يخدم أهداف إسرائيل أو أميركا”. وفي مؤتمر صحفي عقدته، صرحت كارولين ليفيت: “أُبلغت إدارة ترامب صباح اليوم (الثلاثاء) من قِبل الجيش الأميركي بالهجوم الإسرائيلي المُرتقب، فأمر الرئيس ترامب المبعوث (ستيف) ويتكوف فوراً بإبلاغ قطر بالهجوم الوشيك، وهو ما فعله”. وأضافت أن الرئيس الأميركي أكد لقادة قطر أن “مثل هذا الأمر لن يتكرر على أراضيهم” (4).
لكن المسؤولين القطريين نفوا تلقيهم تحذيراً مسبقاً من الولايات المتحدة بشأن الضربات الإسرائيلية، إذ ذكر المتحدث باسم وزارة الخارجية القطرية، ماجد الأنصاري، “أن مزاعم إبلاغ قطر مُسبقاً بالهجوم لا أساس لها من الصحة، فقد أُجريت المكالمة من مسؤول أميركي في الوقت الذي سُمعت فيه الانفجارات في الدوحة”. أما رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد عبد الرحمن آل ثاني، فقد كان أكثر وضوحاً، إذ حرص على استعراض التسلسل الزمني للأحداث، فقال: “بدأ الهجوم الساعة 3:46 مساءً؛ تلقينا أول اتصال من مسؤول أميركي الساعة 3:56 مساءً، بعد عشر دقائق من بدء الهجوم”، وأضاف: “عندما اتصلوا بنا، كان دوي الانفجارات قد بدأ بالفعل” (5).
إسرائيل تحاول أن تبعد الشبهة عن إدارة ترامب
عقب الهجوم على قطر، صدر بيان عن مكتب بنيامين نتنياهو يؤكد أن إسرائيل تتحمل المسؤولية الكاملة عن ذلك الهجوم، وورد فيه: “إن العملية التي نفذت اليوم ضد كبار قادة حماس الإرهابيين كانت عملية إسرائيلية مستقلة بالكامل، فإسرائيل بادرت إليها، وإسرائيل نفذتها، وإسرائيل تتحمل المسؤولية الكاملة عنها”.
وفي مناسبة دعت إليها سفارة الولايات المتحدة في القدس في مساء اليوم نفسه، أعلن بنيامين نتنياهو أنه أمر بهذه العملية “لتصفية الحسابات” مع قادة “حماس”، و”لضمان أمن مواطني إسرائيل في المستقبل”، مؤكداً: “انتهاء أيام الحصانة التي كان يتمتع بها قادة الإرهاب في كل مكان”، وأضاف: “لقد نسي الكثير من العالم، بما في ذلك الكثير من العالم الديمقراطي، أو على الأقل الحكومات، يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر بصورة مخجلة، لكنني لا أنسى، وإسرائيل لن تنسى أبداً”. أما سفيره لدى الأمم المتحدة، داني دانون، فقال يوم الأربعاء في العاشر من هذا الشهر: ” كان هذا القرار صائباً؛ لا نتصرف دائمًا بما يخدم مصالح الولايات المتحدة”، وأضاف لإذاعة 103FM الإسرائيلية: “ننسق مع واشنطن، وهم يقدمون دعماً هائلاً لنا ونحن نقدّر ذلك، لكننا أحياناً نتخذ قرارات ونبلغ الولايات المتحدة، أحياناً نبلغهم مسبقاً، وأحياناً أثناء سير العملية” (6).
ما طبيعة العلاقة بين حكومة نتنياهو وإدارة ترامب اليوم؟
يرى إبراهيم أومنصور، الباحث المشارك في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية” في باريس، والمتخصص في السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، أن جوهر المشكلة في العلاقات الأميركية-الإسرائيلية اليوم يكمن في أن الأميركيين “يجدون أنفسهم محاصرين، إذ لا يزال دعم إسرائيل ثابتاً، لكن السياسة الإسرائيلية تتحرر تدريجياً من السيطرة الأميركية على المستويين الاستراتيجي والعسكري”. فقد استهدفت إسرائيل بالفعل، قبل الهجوم على قطر، لبنان وسورية وإيران، لكنها لم “تواجه ضغوطاً أميركية”، وهو “ما جعل حكومة نتنياهو مقتنعة بقدرتها على الضرب أينما تشاء”، ودفع رئيس الكنيست، أمير أوحانا، إلى التصريح يوم الثلاثاء بأن العملية في قطر تُمثل “رسالة إلى الشرق الأوسط بأكمله”.
ويعتقد إبراهيم أومنصور أن إسرائيل “تتصرف بصورة متزايدة كدولة مارقة”، ويرى حكامها أنهم “قادرون على كل شيء، حتى إن حياة الرهائن أصبحت ثانوية بالنسبة إليهم مقارنة بالأهداف المحددة”، ويتساءل: “كيف يُمكننا فهم مستقبل هذه العلاقة بين حامي تاريخي ودولة تتهاون بصورة متزايدة مع القانون الدولي؟”، وذلك قبل أن يجيب بأن “التخلي عن إسرائيل أمرٌ مستحيل، فالقضية الإسرائيلية هي أيضاً قضية سياسية داخلية، ويتمتع دونالد ترامب بعلاقات أقوى من سلفه مع اليمين الإسرائيلي المتطرف…وإدارته مخترقة من اليمين الأميركي المتطرف، المؤيد بشدة لإسرائيل على المستويين الأيديولوجي والديني” (7).
ووفقاً لمسؤولين أميركيين سابقين، فإن دونالد ترامب “أعرب أحياناً عن استيائه من بنيامين نتنياهو منذ عودته إلى الرئاسة الأميركية في كانون الثاني/يناير الماضي”، لكن إدارته “قدمت دعماً ثابتاً للحملة العسكرية الإسرائيلية ضد حماس، ما سمح للدولة اليهودية أيضاً بتولي زمام المبادرة في قضايا مهمة، مثل البرنامج النووي الإيراني”. وفي هذا الصدد، يقول آرون ديفيد ميلر، مفاوض السلام الأميركي السابق والزميل في مؤسسة “كارنيغي للسلام الدولي”، بخصوص الهجوم على الدوحة: “في هذه النقطة، أعتقد أن دونالد ترامب منزعج من تكتيكات بنيامين نتنياهو، لكنه يتفق غريزياً مع وجهة نظر نتنياهو القائلة بأنه لا يمكن تدمير حماس كمنظمة عسكرية فحسب، بل يجب إضعافها جذرياً” (8).
هل يمكن أن تتعرض طموحات ترامب الدبلوماسية الكبرى للخطر؟
يرى العديد من المحللين أن عدوان إسرائيل على قطر قد يُحبط خطط دونالد ترامب الدبلوماسية في المنطقة ويُشكك في مصداقيته. فوفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”، ولتحليل “CNN”، فإنه “في حين أن من غير المرجح أن تُلحق الأحداث في الشرق الأوسط الضرر بصورة دونالد ترامب السياسية في الولايات المتحدة، التي تُشغلها نقاشات أخرى، فإن الهجوم الإسرائيلي، في وضح النهار في الدوحة، قد يُلحق الضرر بصورته كـصانع سلام قوي ومؤثر في الخارج، لا سيما وأن الهجوم وقع في الوقت الذي كان يجتمع فيه مسؤولو حماس لمناقشة اقتراح وقف إطلاق النار الذي يدعمه دونالد ترامب”. أما صحيفة “نيويورك ديلي”، فتقدّر أنه “منذ توليه منصبه، اتسمت استراتيجية الرئيس الأميركي بـتجاوز المواعيد النهائية، وبالتهديدات الغامضة وبالتصريحات المتناقضة حول كيفية تحقيق إسرائيل هدفها المتمثل في القضاء على تهديد حماس”. كما أن هجوم الدوحة، الذي أدانه قادة المنطقة بالإجماع، قد “يُضعف أحد أهم طموحات دونالد ترامب الدبلوماسية: دفع عملية تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية قدماً، ويجعل، في الوقت نفسه، قادة دول الخليج الأخرى، بما فيها المملكة العربية السعودية، يتساءلون عما إذا كانت إسرائيل، على الرغم من علاقاتها الوثيقة بواشنطن، قادرة على ضربهم دون عقاب مثل قطر، وفقًا لشبكة CNN” (9).
في السياق نفسه، يعتقد جان بول غنيم، الباحث المشارك في “معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية” في باريس، أن إسرائيل، بهجومها على قطر، “ارتكبت خطأً قد يكون له عواقب وخيمة على مستقبل العلاقة التي بنتها بجهدٍ مُضنٍ مع بعض دول الخليج، وعلى المصالح الأميركية في المنطقة”، مقدّراً أن هذا الهجوم قد “يترك ندوباً عميقة في علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة”، وخصوصاً “بعد جولة الرئيس الأميركي التجارية المظفّرة في المنطقة في أيار/مايو الماضي، ومئات المليارات من الوعود بالشراء والاستثمارات التي جُمِعت من دول الخليج”. فدول المنطقة الأخرى لن تتمكن، كما يضيف، “إلا من ملاحظة انحياز الأميركيين الأعمى لسياسة بنيامين نتنياهو المغامرة”، وقد “يدفع هذه الدول بلا شك إلى إعادة النظر في مستقبل هذه العلاقة” (10).
وإذا كان من المرجح أن يُضعف الهجوم الإسرائيلي على قطر آمال دونالد ترامب في رؤية دول خليجية أخرى تنضم إلى ما يُسمى بـ “اتفاقيات إبراهيم”، التي أُبرمت خلال فترة ولايته الأولى، فإن “الانفصال بين دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو يبدو مستبعداً”، وفقًا لمايكل أورين، السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة، الذي يُسلّط الضوء على “رغبة قطب العقارات السابق في إبرام الصفقات واستعراض القوة كحلول للحروب”، ويقول: “إذا استطاع بنيامين نتنياهو الاستمرار في تلبية رغبات كلا الجانبين، فلن يواجه أي مشاكل، لست قلقاً بشأن هذه العلاقة”.
أما جوناثان بانيكوف، مسؤول الاستخبارات الأميركي السابق في الشرق الأوسط، فيقول: “يمكن للولايات المتحدة مواصلة إقناع إسرائيل ودفعها لاتخاذ قرارات، لكن بنيامين نتنياهو سيواصل التصرف بما يعتقد أنه الأفضل لمصالح إسرائيل فحسب” (11).
خاتمة: هناك بديل للعلاقات المتميزة مع الولايات المتحدة
أثبت العدوان الإسرائيلي على قطر أن حكومة بنيامين نتنياهو باتت تشعر بفائض قوة يسمح لها باستباحة سيادة أية دولة عربية، وأن الركون إلى العلاقة المتميزة مع الولايات المتحدة لم يعد مجدياً لوقف هذا الجموح العدواني لهذه الحكومة، الأمر الذي يفرض على الدول العربية، وخصوصاً في الخليج، أن لا ترهن نفسها لهذه العلاقة وأن تستفيد من التحوّلات الجذرية التي يشهدها العالم، والتي تجعله يتحوّل، شيئاً فشيئاً، إلى عالم متعدد الأقطاب، وهو ما دلّ عليه الاجتماع الأخير لدول “مجموعة البريكس” في مدينة ريو دي جانيرو في تموز/يوليو الماضي وما أبدته من نزعات استقلالية على الصعيدين الاقتصادي والدبلوماسي، وكذلك استعراض القوة في بكين في 3 أيلول/ سبتمبر الجاري، الذي بيّن قدرة القادة الصينيين على حشد حلفائهم، مثل الزعيم الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، فضلاً عن الزعيم الهندي ناريندرا مودي، الذي كانت بلاده تاريخياً على علاقات متوترة مع الصين.
- – د. ماهر الشريف – باحث ومؤرخ في مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت.