2:44 مساءً / 6 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

إسرائيل على طريق العزلة الدولية ، حين يغيّر الزمن معادلاته ، بقلم : المهندس غسان جابر

إسرائيل على طريق العزلة الدولية: حين يغيّر الزمن معادلاته ، بقلم : المهندس غسان جابر

في مطلع الثمانينيات، كنت أتابع عن قرب كيف تعامل العالم مع غزو إسرائيل للبنان عام 1982. في تلك اللحظة بدا أن الدولة العبرية وصلت إلى ذروة قوتها: جيش يندفع إلى بيروت، دعم أمريكي غير محدود، وصورة عالمية لدولة صغيرة تتحدى محيطها. لكن ما إن ظهرت صور مجزرتي صبرا وشاتيلا حتى انقلب المزاج الدولي، وتحوّل ما كان يُنظر إليه كـ”عملية دفاعية” إلى عبء أخلاقي، ترك أثرًا عميقًا على صورة إسرائيل في العالم لعقود.

اليوم، بعد أكثر من سبعمائة يوم على حرب غزة، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه ولكن على نحو أوسع وأخطر. إسرائيل لم تعد تواجه أزمة صورة عابرة، بل أزمة شرعية وجودية. العالم يرى في غزة مشهدًا يتكرر كل يوم: أحياء كاملة تُمحى، أطفال تحت الركام، وملايين يعيشون في ظروف لا إنسانية. في مثل هذه اللحظات، تفقد الدول أقوى أسلحتها: روايتها الأخلاقية.

لقد استطاعت إسرائيل، منذ تأسيسها، أن تفرض معادلة تقوم على ركيزتين:

  1. التفوق العسكري الذي يمنحها القدرة على فرض الأمر الواقع.
  2. الدعم الغربي الذي يغطي هذا الواقع بشرعية سياسية ودبلوماسية.

لكن ما يحدث اليوم في غزة يهدد الركيزتين معًا. فالعالم الغربي، الذي كان يردد شعارات “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، بدأ يتساءل عن حدود هذا الحق حين يتحول إلى حرب بلا نهاية. حتى في الولايات المتحدة، التي كانت دائمًا خط الدفاع الأول عن إسرائيل، تتصاعد أصوات في الكونغرس والإعلام تشكك في جدوى الدعم غير المشروط.

وإذا نظرنا إلى أوروبا، نجد أن المقارنات مع جنوب أفريقيا في عهد الأبارتهايد لم تعد من المحرمات. هذه المقارنة ليست مجرد توصيف إعلامي، بل تعبير عن اتجاه سياسي يتسع يومًا بعد يوم، حيث تتحول المقاطعة من مبادرات رمزية إلى نقاشات برلمانية وقرارات اقتصادية.

أما في الإقليم، فالأمر لا يقل خطورة. الإمارات، التي فتحت أبوابها لإسرائيل عبر “اتفاقيات أبراهام”، تحذر الآن من أن مشروع الضم يمثل خطًا أحمر. ومعنى ذلك أن الجسر الذي عبرت منه إسرائيل إلى العالم العربي قد ينهار، لتعود مرة أخرى إلى عزلة إقليمية كانت تعتقد أنها تجاوزتها إلى غير رجعة.

هذه ليست المرة الأولى التي تجد فيها إسرائيل نفسها مهددة بالعزلة. بعد حرب لبنان 1982، واجهت ضغوطًا سياسية وإعلامية حادة، لكنها كانت عزلة محدودة في الزمن والمكان. اليوم، المشهد أوسع بكثير: الولايات المتحدة نفسها ترسل إشارات قلق، أوروبا تتحول تدريجيًا نحو موقف نقدي، والعالم العربي يعيد ترتيب حساباته.

التاريخ يعلمنا أن العزلة الدولية قد لا تأتي فجأة، لكنها حين تترسخ تصبح خانقة. جنوب أفريقيا استمرت عقودًا تتحدى المجتمع الدولي، لكنها في النهاية لم تحتمل حصار الاقتصاد والسياسة والأخلاق. صربيا في عهد ميلوشيفيتش قاومت سنوات، لكنها سقطت تحت وطأة كونها دولة منبوذة. وإسرائيل، إذا استمرت في تجاهل تحولات الزمن، قد تجد نفسها على الطريق ذاته.

إسرائيل تملك جيشًا قويًا واقتصادًا متطورًا، لكن ما تخسره الآن أثمن من ذلك كله: قبول العالم بوجودها كجزء طبيعي من النظام الدولي. القوة تستطيع أن تفرض واقعًا مؤقتًا، لكن الشرعية وحدها هي التي تضمن البقاء.

إن الزمن، كما قال هيكل ذات يوم، “ليس مجرد ساعات وأيام، بل قوة لا ترحم من يتجاهل إشاراته”. وإسرائيل، إذا لم تدرك أن أمنها لا يمكن أن يُبنى على أنقاض غزة، فإنها ستكتشف ـ ربما بعد فوات الأوان ـ أن الزمن قد انقلب عليها، وأن العزلة أخطر من أي هزيمة عسكرية.

  • – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.

شاهد أيضاً

الهباش أمام مؤتمر جماهيري في باكستان: شعبنا لن يرحل عن أرضه وسيبقى صامدا فيها

الهباش أمام مؤتمر جماهيري في باكستان: شعبنا لن يرحل عن أرضه وسيبقى صامدا فيها

شفا – قال قاضي القضاة، مستشار الرئيس للشؤون الدينية والإسلامية محمود الهباش، إن الشعب الفلسطيني …