
المولد النبوي الشريف بين الاحتفال والاقتداء ، بقلم : مروة معتز زمر
بسم الله الرحمن الرحيم
في كل عام وفي ذكرى المولد النبوي الشريف، تتهيأ القلوب قبل أن تتزيّن الشوارع، وتستيقظ في النفس أسئلة كبرى: ماذا يعني أن نحتفل بميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟ هل هو مجرد طقس زمني نُكرّره، أم أنه مناسبة لاستحضار الرسالة التي حملها إلينا؟ وهل يليق بنا أن نرفع الأناشيد والقصائد، ثم نُقصّر في الاتباع والاقتداء بأخلاقه التي جاء ليعلمنا إياها؟
في الحقيقة هذا اليوم ليس مجرد ذكرى ولادة رجل عظيم في التاريخ، بل هو ولادة معنى جديد للإنسان. يوم وُلد فيه محمد، لم يُولد طفلٌ فقط، بل وُلدت في الأرض رحمة. قال الله تعالى: }وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين {هذه الآية لا تُعبّر عن صفة عابرة، بل عن جوهر رسالته، فالرسالة الإسلامية في عمقها مشروع رحمة، موجهة للإنسان في ضعفه وقوته، في حزنه وفرحه، في جراحه وآماله.
حين نتأمل شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، نجد أننا أمام مدرسة كاملة في الإنسانية.
لقد علّمنا أن الرحمة ليست شعوراً عاطفياً عابراً، بل هي أسلوب حياة. كان إذا دخل عليه رجلٌ غريب ارتجف من هيبته، فيقول له مُطَمئِناً: هوّن عليك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة. بهذا التواضع حوّل الخوف إلى أمان، والرهبة إلى طمأنينة. هذه اللحظة ليست مجرد قصة، إنها درس في علم النفس العلاجي كيف نُهدّئ القلوب المرتجفة بالكلمة الطيبة؟ كيف نُعيد للإنسان ثقته بنفسه بلمسة تواضع؟
إنه المعلّم الأول لمفهوم الرعاية النفسية، فقد كان يُربّي باللين، ويحتوي بالرفق، ويُذكّر بأن الغضب نار، وأن كظم الغيظ بطولة لأنها تحتاج تنظيم انفعالي عميق. قال تعالى في وصف المؤمنين: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) آل عمران134، والنبي كان المثل الأعلى في ذلك، حتى وهو في أشد المواقف أذىً وظلماً.
النبي لم يكن خطيباً فحسب، بل كان معالجاً نفسياً بالفطرة، لقد أدرك بعمق أن الإنسان لا يعيش على القوانين وحدها، بل هو كائن اجتماعي يؤثّر ويتأثَّر يحتاج إلى الكلمة الطيبة، والاحتواء، والقدوة التي تمنحه الطمأنينة.
من يتأمل سيرته يجدها علاجاً لكثير من الاضطرابات النفسية التي نعاني منها اليوم فأمام القلق، قدّم النبي نموذج التوكل حين قال لصاحبه في الغار لا تحزن إن الله معنا، وأمام الحزن العميق، علّمنا التعبير المشروع عن المشاعر، فدمعت عيناه عند فقد ابنه إبراهيم، وقال عبارته الشهيرة: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وأمام الغضب، أرشدنا إلى التنفيس السليم؛ إذا غضب أحدكم فليتوضأ.
إنها إرشادات نفسية عميقة، تسبق المدارس الحديثة في العلاج السلوكي والانفعالي.
من منظور فلسفي، إن ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مجرد حدث تاريخي، بل هو إعلان أن الوجود الإنساني له معنى يتجاوز الصيرورة العشوائية للزمان. إنه يُذكّرنا بأن الحرية ليست مجرد قدرة على الفعل، بل مسؤولية أخلاقية تجاه الذات والآخرين، وأن حياتنا فرصة للخلق الواعي للقيم، وتجسيد الرحمة والعدل والحق في كل عمل وفكرة، وقد طرحت رسالته سؤالاً جوهرياً: ما معنى أن تكون إنساناً صالحاً؟
أن تعيش للآخر كما تعيش لنفسك، أن ترى في الفقير أخاك، وفي الضعيف أمانة، وفي المختلف شريكاً في الخلق، وأن تكون العبودية لله طريقاً إلى الحرية من كل قيد.
لقد قلب معادلات الوجود، فأخرج الإنسان من أَسْر القبيلة والعِرق إلى رحاب الإنسانية الجامعة. هذه ثورة فلسفية عظمى، لم يأت بها فيلسوف مجرّد، بل نبي عاش بين الناس، ومشى في الأسواق، وبكى على أطفاله، وضحك مع أصحابه.
اليوم، ونحن نحتفل بالمولد، هل نكتفي بالمظاهر من حلويات، أناشيد وزينة أم هل نحتفل حقاً بأخلاقه؟
هل يكفي أن نُردّد سيرته، بينما نتجاهل رسالته في حياتنا اليومية؟
حين نحتفل ونظلم بعضنا، أليس هذا تناقضاً؟ حين نُعلّق الزينة ونقطع الأرحام، ألا نُفرغ الاحتفال من مضمونه حين نُنشد القصائد ونُقصّر في الأمانة والعدل؟
الاحتفال الحقيقي ليس في الزينة الخارجية، بل في الزينة الداخلية، في تهذيب النفس، في التواضع، في الصبر، في الإحسان.
المولد النبوي الشريف ليس احتفالاً بقدر ما هو احتفاء بالقيم التي جسدها النبي صلى الله عليه وسلم وبالرسالة التي جاء بها. إنها فرصةٌ غاليةٌ لاستحضار روحه الكريمة في حياتنا، لنعيشَ بِهديه، ونتخلّقَ بأخلاقه، فتَرتَقِيَ أرواحنا، وتَزهوَ علاقاتنا بالمحبة والإخاء، ويتعمّقَ وعينا الأخلاقي، ولو حوّلناه من مجرد زينة وأناشيد إلى ورشة عمل أخلاقية جماعية، لتغيّر حال الأمة.
قال تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذَكَر الله كثيراً) الأحزاب21 هذه الآية تختصر معنى المولد: إنه دعوة إلى الاقتداء أن نرى في سيرته مرآة لنا، أن نتساءل: هل نمشي على أثره في بيوتنا، في أعمالنا، في تربية أبنائنا؟ المولد النبوي هو تذكير للأُمّة بالأمانة الإنسانية التي تحملها، أمانة الرحمة، وأمانة الأخلاق قبل الشعائر، لقد قال: إنما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق، فهل نتمّمها اليوم، أم نتناساها ونستعيض عنها بالشعارات؟
ما أحوجنا اليوم، ونحن نعيش انقسامات وصراعات، أن نعيد اكتشاف معنى المولد النبوي ليس كشكل، بل كمنهج عملي كأن نعلّم أبناءنا الرحمة قبل الحفظ، الصدق قبل البلاغة أن نُشيع ثقافة العفو بدل الانتقام، الحوار بدل الإقصاء أن نُعيد الاعتبار للعدل كقيمة عليا، فقد قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكّرون) النحل 90
الاحتفال بالمولد النبوي ليس لحظة زمنية تنتهي بانتهاء اليوم، بل هو رحلة مستمرة، نعيد فيها قراءة ذواتنا على ضوء سيرته، ونُجدد عهدنا مع الله ومع أنفسنا أن نكون أمة الرحمة، لا أمة الصراع.
إن أعظم هدية نقدمها في المولد ليست قصيدة ولا زينة، بل قرارٌ صادق أن نقتدي بأخلاقه في حياتنا اليومية، أن نحمل رسالته كرسالة إنسانية شاملة، وأن نحتفل به كل يوم، في صدقنا، في عدلنا، في رحمتنا.
فاللهُّمَّ اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.