
تذويت الرقمنة في التعليم والتدريب المهني والتقني: من الفكرة إلى التنفيذ في ظل الثورة الصناعية الخامسة
بقلم : الدكتور عماد سالم
ق.ا رئيس الهيئة الوطنية للتعليم والتدريب المهني والتقني سابقاً، باحث اكاديمي وخبير في السياسات التعليمية وسوق العمل
تشهد المجتمعات المعاصرة تحولات تقنية واجتماعية عميقة بفعل ما يعرف بالثورة الصناعية الخامسة، التي تُعد امتدادًا حضاريًا وتكنولوجيًا للثورات الصناعية السابقة، لكنها تتفرد باندماجها العميق بين العوالم الفيزيائية، الرقمية، والبيولوجية. في هذا السياق، لم تعد الرقمنة مجرد أداة أو خيار تقني، بل تحولت إلى مكون جوهري في نسيج الحياة اليومية ومطلبًا وجوديًا يشمل مختلف مستويات الأداء الإنساني والاجتماعي.
وتأتي أهمية هذا المقال أيضًا في ظل الدور الحيوي الذي تلعبه الهيئة الوطنية للتعليم والتدريب المهني والتقني، كجهة وطنية مسؤولة عن رسم السياسات وتنظيم منظومة التعليم والتدريب المهني والتقني في فلسطين، حيث تمثل محورًا استراتيجيًا في دعم التوجه نحو تذويت الرقمنة والدمج الفعّال للتقنيات الرقمية في مختلف مكونات المنظومة.
ويبرز في هذا الإطار مفهوم تذويت الرقمنة (Digital Internalization)، الذي يشير إلى تحويل الرقمنة من ممارسة خارجية إلى جزء لا يتجزأ من وعي الإنسان وسلوكه، على غرار مفهوم “تذويت المعرفة” الذي يعني امتلاك المعرفة داخليًا كجزء من البنية الإدراكية والعقلية.
يُعتبر تذويت الرقمنة في التعليم والتدريب المهني والتقني (TVET) عاملًا محوريًا لضمان تأهيل الأفراد، المؤسسات، والمجتمع ككل لمواكبة متطلبات الثورة الصناعية الخامسة، وتحقيق التنمية المستدامة.
يُستقى هذا المقال من خبرة طويلة في مجال التعليم المهني والتقني، ويُسلط الضوء على أهمية تذويت الرقمنة من خلال دمج الإطار النظري، التجارب الدولية، والتحديات والفرص التي تواجه فلسطين. كما يُنوّه إلى مساهمة الأستاذ صخر سالم المحاريق في إثراء هذا المفهوم برؤية شمولية تسلط الضوء على الأبعاد الفكرية والثقافية والاجتماعية للرقمنة.
ويعد الكاتب الفلسطيني صخر سالم المحاريق الأكاديمي والمختص في تنمية وتطوير الموارد البشرية مبتكر هذا المفهوم عالمياً وأول من أدرجه في الأدبيات العالمية باللغتين العربية والانجليزية كرؤية شمولية في مقال بعنوان: تذويت الرقمنة تعبير ورؤية شخصية شمولية في ظل الثورة الصناعية الرابعة حيث عرف المفهوم بأنه
مفهوم تذويت الرقمنة وأهميته في التعليم والتدريب المهني والتقني
1.1 تعريف تذويت الرقمنة
يشير مصطلح تذويت الرقمنة إلى عملية تحويل التكنولوجيا الرقمية من مجرد أدوات مساعدة خارجية إلى مكون أساسي متأصل في الوعي والسلوك. فلا تقتصر الرقمنة على الاستخدام التقني فقط، بل تشمل تكاملها في طريقة التفكير، التعلم، العمل، والتفاعل الاجتماعي.
في مجال التعليم والتدريب المهني والتقني، تعني تذويت الرقمنة تحول البرامج التعليمية وأساليب التدريب إلى بيئات رقمية متكاملة، يتم فيها تبني مهارات وتقنيات متقدمة تساعد على تطوير قدرات الأفراد بشكل ينسجم مع متطلبات سوق العمل الرقمي.
1.2 لماذا تذويت الرقمنة؟
إن تذويت الرقمنة ليس ترفًا فكريًا أو مجرد اتجاه تقني، بل هو ضرورة استراتيجية ملحة لتحقيق:
⦁ تأهيل الأفراد لمتطلبات سوق العمل الحديث، الذي يتطلب مهارات رقمية متطورة إلى جانب المهارات الفنية التقليدية.
⦁ تطوير المؤسسات التعليمية والمهنية لتصبح أكثر مرونة وقدرة على الابتكار والتكيف مع المتغيرات التقنية.
⦁ تعزيز ثقافة مجتمعية تدعم الوعي الرقمي والاستخدام الأخلاقي للتكنولوجيا، مما يساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.
1.3 مكونات تذويت الرقمنة
وفقًا لما طرحه الأستاذ صخر المحاريق في مقالته القيمة “تذويت الرقمنة: تعبير ورؤية شخصية شمولية في ظل الثورة الصناعية الخامسة”، يتطلب تذويت الرقمنة تطوير:
⦁ مهارات الأفراد: التي تتجاوز الأساسيات إلى مهارات تحليلية، نقدية، وإبداعية تشمل البرمجة، أمن المعلومات، والتفكير التصميمي.
⦁ التحول المؤسسي: بأن تتحول الرقمنة إلى ثقافة تنظيمية تشمل إعادة هندسة العمليات وتبني النماذج الرقمية في الرؤية والاستراتيجية.
⦁ تعزيز دور المؤسسات التعليمية: بدمج الرقمنة في المناهج، تجهيز بيئات تعليمية ذكية، وتدريب المعلمين.
⦁ إعادة تشكيل الثقافة المجتمعية: عبر نشر الوعي الرقمي، ترسيخ قيم الاستخدام المسؤول، وتحفيز الإنتاج الرقمي المحلي.
1.4 العلاقة بالثورة الصناعية الخامسة
تُعد الثورة الصناعية الخامسة مرحلة نوعية من التطور التكنولوجي، تتميز بالدمج بين الذكاء الاصطناعي، إنترنت الأشياء، التكنولوجيا الحيوية، والإنسان. ويُمكن القول إن تذويت الرقمنة هو المفتاح الذي يمكن بواسطته للأنظمة التعليمية والتدريبية مواجهة تحديات هذا العصر والاندماج الفاعل في سوق العمل الرقمي.
التجارب الدولية الرائدة في تذويت الرقمنة في التعليم والتدريب المهني والتقني
شهدت عدة دول متقدمة تطورات نوعية في دمج الرقمنة ضمن منظومات التعليم والتدريب المهني والتقني (TVET)، حيث تم توظيف التكنولوجيا لتحويل هذه المنظومات إلى بيئات ذكية وقادرة على مواكبة الثورة الصناعية الخامسة. فيما يلي استعراض لأبرز هذه التجارب:
2.1 فنلندا: قيادة التعليم المهني الرقمي
تعد فنلندا من الدول الرائدة في دمج الرقمنة ضمن TVET، حيث اعتمدت على:
⦁ تحديث المناهج لتشمل المشاريع الرقمية العملية.
⦁ توفير بيئات تعلم رقمية متكاملة تدعم الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز.
⦁ تدريب المعلمين على استخدام أدوات تكنولوجية متقدمة.
⦁ استخدام منصات رقمية تفاعلية لتحفيز التعاون والعمل الجماعي.
بحلول عام 2023، تجاوزت نسبة المدارس التي توفر بيئة تعليمية رقمية متكاملة 90%، مع ارتفاع ملحوظ في قدرات الطلاب التقنية ومهارات التفكير النقدي والتحليلي.
2.2 ألمانيا: النظام المزدوج والتدريب الرقمي
يشتهر النظام الألماني المزدوج بفعاليته في التدريب المهني، وقد أدخلت ألمانيا:
⦁ معامل محاكاة رقمية (Virtual Labs) لتدريب المتدربين على المعدات الصناعية.
⦁ شراكات وثيقة بين المؤسسات التعليمية والقطاع الصناعي لتحديث المهارات الرقمية.
⦁ برامج مستمرة لتأهيل المدربين على أحدث التقنيات.
أسهمت هذه الإجراءات في تقليل الفجوة بين مهارات الخريجين ومتطلبات سوق العمل بنسبة تقارب 35% خلال العقد الماضي، مما رفع من فرص التشغيل والاستدامة الاقتصادية.
2.3 كوريا الجنوبية: التعليم المهني الذكي
كجزء من استراتيجية التنمية الرقمية، ألزمت كوريا الجنوبية مؤسسات TVET بإنشاء “معامل ذكية” تستخدم الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء في التدريب، مع:
⦁ اعتماد شهادات معتمدة للمهارات الرقمية.
⦁ دمج التدريب العملي الرقمي ضمن البرامج المهنية.
⦁ استخدام نظم إدارة تعلم إلكترونية متقدمة.
وقد بلغت نسبة خريجي TVET الحاصلين على شهادات في المهارات الرقمية 95% بحلول عام 2022، ما يعكس قدرة عالية على المنافسة في الاقتصاد الرقمي.
2.4 سنغافورة: استراتيجية SkillsFuture
أطلقت سنغافورة مبادرة SkillsFuture، التي تمنح كل مواطن رصيدًا ماليًا لتطوير مهاراته، مع تركيز على:
⦁ تعزيز التعلم الرقمي المستمر.
⦁ توفير منصات تعليمية مفتوحة.
⦁ دعم التدريب المهني التقني المدمج مع المهارات الرقمية.
وقد أسهمت هذه المبادرة في مضاعفة دخول خريجي TVET الرقمي خلال خمس سنوات بنسبة 60%، مع تعزيز إنتاجية الاقتصاد الوطني.
واقع التحديات والفرص في فلسطين
على الرغم من الجهود المبذولة، تواجه فلسطين تحديات حقيقية في تذويت الرقمنة في منظومة TVET، منها:
⦁ البنية التحتية الرقمية المحدودة في بعض المناطق، ما يعرقل توصيل الخدمات التعليمية الرقمية.
⦁ ضعف تحديث المناهج لتواكب المتطلبات الرقمية المتطورة.
⦁ نقص الكوادر المدربة تقنيًا على استخدام وتطوير التكنولوجيا الحديثة.
⦁ فجوة التواصل مع سوق العمل الرقمي وغياب شراكات استراتيجية مع القطاع الخاص والتقني.
مع ذلك، تسعى الهيئة الوطنية للتعليم والتدريب المهني والتقني بجهودها التنظيمية والسياسية إلى رفع مستوى البنية التحتية الرقمية، وتحديث المناهج، وتعزيز التدريب المهني الرقمي، عبر التعاون مع الشركاء المحليين والدوليين، مما يوفر فرصة مهمة لدفع عملية تذويت الرقمنة رغم التحديات.
كما توفر قاعدة شبابية كبيرة قابلة للتدريب السريع على المهارات الرقمية، بالإضافة إلى دعم دولي من مؤسسات مثل GIZ، واليونسيف، وبرامج الأمم المتحدة لتطوير القدرات الرقمية.
آليات التنفيذ العملية في فلسطين: سيناريوهات زمنية
لتحقيق تذويت الرقمنة في TVET الفلسطيني، يمكن اعتماد خطة تنفيذية متدرجة بإشراف ودعم الهيئة الوطنية:
4.1 السيناريو القصير الأمد (1-2 سنة)
⦁ تدريب مكثف للمعلمين والمدربين على المهارات الرقمية الأساسية والمتقدمة، بإشراف الهيئة الوطنية.
⦁ تطوير منصات تعليمية مفتوحة المصدر لتوفير محتوى رقمي مجاني.
⦁ تحديث جزئي للمناهج التعليمية لدمج مكونات رقمية.
⦁ إطلاق حملات توعية بالوعي الرقمي واستخدام التكنولوجيا الأخلاقي بدعم من الهيئة.
4.2 السيناريو المتوسط الأمد (3-5 سنوات)
⦁ إنشاء معامل محاكاة رقمية في المؤسسات التدريبية بالتعاون مع الهيئة الوطنية والقطاع الخاص.
⦁ بناء شراكات مع شركات تكنولوجيا محلية وعالمية لدعم التدريب والتوظيف.
⦁ تطوير نظام تعليم مزدوج يجمع بين التدريب الميداني الرقمي والتقليدي.
⦁ توسيع استخدام الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز في التعليم.
4.3 السيناريو الطويل الأمد (5-10 سنوات)
⦁ تحويل منظومة TVET إلى منظومة ذكية رقمية بالكامل، تشمل كل مكونات التعليم والتدريب والإدارة.
⦁ إلزام المهارات الرقمية كجزء من شروط التخرج والشهادات.
⦁ تطوير مراكز بحث وتطوير رقمية في مؤسسات التدريب.
⦁ تعزيز الاقتصاد الرقمي عبر تمكين الخريجين من ريادة الأعمال الرقمية.
تلعب الهيئة الوطنية دورًا محوريًا في تصميم وتنفيذ هذه الخطط، عبر التنسيق مع الجهات الحكومية، التعليمية، والقطاع الخاص لضمان استدامة ونجاح التحول الرقمي.
دراسات حالة وأمثلة تطبيقية
⦁ برنامج التدريب المهني في قطاع الطاقة المتجددة (بالتعاون مع GIZ): استُحدثت فيه معامل ذكية ومحاكاة رقمية، مع تدريب متدربين على استخدام أجهزة تحكم ذكية وبرمجيات تحليل البيانات.
⦁ مشروع تطوير التعليم التقني في جامعة فلسطين التقنية – خضوري: دمج نظام التعلم الإلكتروني واستخدام الواقع المعزز في مختبرات الهندسة.
⦁ مبادرة تدريب الشباب في قطاع تكنولوجيا المعلومات: شملت تدريبًا مكثفًا في البرمجة وأمن المعلومات عبر منصات رقمية، مع توفير فرص عمل في شركات ناشئة محلية.
تجسد هذه المشاريع جهود الهيئة الوطنية في دعم وتطوير برامج تعليمية رقمية متطورة تسهم في تعزيز تذويت الرقمنة على المستوى الوطني.
البعد الاقتصادي لتذويت الرقمنة
⦁ تشير الدراسات إلى أن كل 10% زيادة في مهارات الرقمنة تسهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.5 إلى 2%.
⦁ في فلسطين، تتوافق هذه النسبة مع حاجة ملحة لتحسين إنتاجية القوى العاملة، خاصة في ظل معدلات البطالة العالية بين الشباب.
⦁ تذويت الرقمنة يعزز ريادة الأعمال والابتكار، ما يخلق فرص عمل جديدة ويدعم نمو اقتصاد المعرفة.
⦁ تسعى الهيئة الوطنية لتطوير البرامج والمشاريع التي تدعم دمج الرقمنة في التعليم والتدريب المهني بما يعزز من مساهمة الخريجين في الاقتصاد الرقمي.
الخاتمة والتوصيات
تذويت الرقمنة في التعليم والتدريب المهني والتقني ضرورة استراتيجية في ظل الثورة الصناعية الخامسة. يُعد دمج التكنولوجيا الرقمية في بنياتنا التعليمية والتدريبية أداة رئيسية لتأهيل الكوادر البشرية وتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد الفلسطيني.
من خلال دمج رؤية الأستاذ صخر سالم المحاريق التي أبرزت البعد الثقافي والاجتماعي للرقمنة، والرؤية العملية التي أقدمها هنا، يصبح أمامنا فرصة نادرة لتطوير منظومة TVET تتناسب مع متطلبات العصر.
التوصيات الأساسية:
⦁ إطلاق استراتيجية وطنية شاملة لتذويت الرقمنة في TVET بإشراف الهيئة الوطنية.
⦁ تعزيز البنية التحتية الرقمية في المؤسسات التعليمية والتدريبية.
⦁ تحديث المناهج وتأهيل المعلمين والمدربين بشكل مستمر.
⦁ بناء شراكات فعالة مع القطاع الخاص ودعم الابتكار وريادة الأعمال الرقمية.
⦁ الاستثمار في التوعية المجتمعية للرقمنة كقيمة وثقافة.
⦁ تمكين وتعزيز دور الهيئة الوطنية لتكون الجهة الرائدة في قيادة التحول الرقمي وضمان استدامته.