12:38 مساءً / 25 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

التعلم الاجتماعي العاطفي في السياق الفلسطيني: من فعل المقاومة فنّ الوجود ، بقلم : نسيم قبها

لا يقتصر مفهوم التربية في السياق الفلسطيني على نقل المعارف الأكاديمية المجردة، بل يتعداه ليكون مشروعاً وجودياً يمس صميم الكينونة الإنسانية في مواجهة مشروع استعماري إحلالي يستهدف الإنسان الفلسطيني والأرض معاً. وفي هذا المضمار، يبرز التعلم الاجتماعي العاطفي ليس كمنهج ونهج تربوي مستورد فحسب، بل كإطار فلسفي وأخلاقي ضروري لبناء الشخصية المتوازنة، المرنة، والمقاومة. إنه تحول من “بيداغوجيا المضطهدين” – على حد تعبير باولو فريري – نحو “بيداغوجيا التحرر والتمكين”، حيث يصبح التعلم فعل مقاومة وصمود يومي يعيد تأكيد الذات والإرادة الجماعية في قضية حيّة.

فلسفياً، يستند التعلم الاجتماعي العاطفي إلى تيارات إنسانية تؤكد على أن المعرفة لا تنفصل إطلاقا عن المشاعر والقيم والعلاقات. إنه يجسد مفهوم “التربية الجوهرية” ، والتي تعني تشكيل الشخصية ماديا ومعنويا بأكملها، وليس مجرد تلقين مبعوث من إرسال المعلومات بشكلها البارد. في فلسطين، حيث يعيش الطفل تحت وطأة الاحتلال وبشاعته ومصادرة الحقوق، يصبح هذا التشكيل عملاً ثورياً. إن تطوير الوعي الذاتي لدى الطالب في المدرسة ليس مجرد تعرفه على مشاعره، بل هو عملية “استعادة الذات” من رواية المحتل الذي يسعى لتشويهها وإفقادها ثقتها. إنها جذوة الوعي النقدي الأولى التي تقول: “أنا موجود، أشعر، وأستحق” ، وتمتد إلى ما بعد المدرسة كمتلازمة وجدانية.

وعلى الصعيد الجماعي، تتحول مهارات الوعي الاجتماعي وإدارة العلاقات من كفاءات شخصية إلى أدوات للتماسك المجتمعي الواعي والصمود المنتشي بفهم الذات. المجتمع الفلسطيني، بتركيبته الغنية وتحدياته الفريدة، يقدم مختبراً حياً لتربية عاطفية اجتماعية أصيلة. إن تعلم التعاطف والاحترام في فصل دراسي بلا طلاء، و يضم طلاباً من خلفيات مختلفة (لاجئون، سكان مدن وريف ومخيمات وبدو) هو تدريب عملي على نبذ الانقسام وبناء نسيج اجتماعي رصين و متين. إنها “أخلاقيات العناية” التي تتحدث عنها كارول غيليغان، مجسدة في فعل تربوي يرعى الإنسان في أخيه الإنسان في إطار أنسنة التعلم والتربية.

غير أن توظيف التعلم الاجتماعي العاطفي الأمثل في فلسطين يتطلب مقاربة ” توطينية ” حساسة للواقع. لا يمكن تطبيق مناهج جاهزة مصممة لمجتمعات غير مستقرة أمنيا وسياسيا. بل يجب أن تُصمم البرامج من قبل تربويين فلسطينيين، مستلهمين من حكاية شعبنا وقيمه الأصيلة ، من تعاضد وصبر وتضحية (التعاون، الصبر، التضحية). يجب أن تعترف هذه البرامج بـ “الصدمة التاريخية” الجماعية دون أن تختزل الطفل فيها، فتعمل على بناء “المرونة النفسية” وليس فقط معالجة الآلام المستمرة . يجب أن تكون الأنشطة “متمركزة حول القوة” ، تبحث عن مواطن القوة في الأسرة والمجتمع المحلي، وتحولها إلى رافعة للنمو والثبات .

على سبيل المثال، يمكن تحويل درس عن إدارة الغضب إلى ورشة نقدية لفهم جذور الغضب الجماعي المشروع تحت الاحتلال، وتوجيه هذه الطاقة العاطفية نحو قنوات إبداعية ومقاومة واعية فعالة. كما يمكن لمشروع زراعة شجرة زيتون جماعي أن يكون درساً عميقاً في المسؤولية الاجتماعية والارتباط بالأرض، مجسداً العلاقة العاطفية بين الإنسان والوطن.

إن الاستثمار في التعلم الاجتماعي العاطفي في فلسطين هو استثمار في “المناعة النفسية-الاجتماعية” للشعب. إنه ليس ترفاً، بل ضرورة استراتيجية في معركة الوجود هذه. إنه البناء الذي لا يراه المحتل، فهو لا يبني مدرسة أو يرفع جداراً فحسب، بل يبني إنساناً قادراً على الحب، والحلم، والمقاومة. إنها تربية لا تفصل العقل عن القلب، ولا الفرد عن الجماعة، ولا المعرفة عن القيمة. إنها، في جوهرها، فلسفة حياة تؤمن بأن تربية المشاعر هي أصل كل تربية، وأن تعلم العيش معاً هو أعظم انتصار على محاولات التفكيك والتشتيت. وهي بذلك، تصبح أحد أقوى أشكال المقاومة وأكثرها نبلاً.

نسيم قبها / باحث في الشأن التربوي
الإئتلاف التربوي الفلسطيني
الحملة العربية للتعليم

شاهد أيضاً

نقابة الصحفيين : إسرائيل تتعامل مع الصحفيين كخطر استراتيجي

نقابة الصحفيين : إسرائيل تتعامل مع الصحفيين كخطر استراتيجي

شفا – حملت نقابة الصحفيين الفلسطينيين، سلطات الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن جرائم حرب موصوفة …