7:09 مساءً / 21 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

قراءة شاملة في قصيدة “خبزُها… كتب، وصلاتُها… قصائد” للشاعرة رانية مرجية ، بقلم : طه دخل الله عبد الرحمن

قراءة شاملة في قصيدة “خبزُها… كتب، وصلاتُها… قصائد” للشاعرة رانية مرجية ، بقلم : طه دخل الله عبد الرحمن

يا قدّيسةً لم تُزَكِّها الكنائس،
ولا رفعها المذبحُ فوق الجدران،
لكنني كنتُ أراكِ
في كلِّ سجدةٍ،
وفي كلِّ دمعةِ تائب،
وفي كلِّ ابتسامةِ أمٍّ
تداري جوعَ أولادِها بالحنان.
منذ جيلِ العاشرة
وأنتِ تحرسين مكتباتِ المدينة
كأنكِ ملاكٌ موكَّلٌ بجمعِ الكتبِ النادرة،
كنتِ تقتنين لي أجملَ ما كُتب في الأدب،
كأنكِ تعلمين أن الكلمات
ستكون نجاتي
في عمرٍ لا يُؤمَنُ فيه بالنجاة.
كم من مرةٍ عدتِ بالكتبِ بدلَ الخبز،
وبالقصائدِ بدلَ الحلوى،
وتقولين لي همسًا:
“الشِّعرُ يُشبعُ أكثر، يا صغيرتي،
والقصصُ تنبتُ فيكِ أجنحة
حين تنكسر الأبواب.”
كنتِ قارئةً عظيمة،
لا تحفظين النصوص، بل تسكنينها،
تقرئين القصائدَ كمن يصلّي،
كمن يتهجّى أسماءَ الله في العتمة
ويجد فيها ملاذًا وضياء.
وحين كنتِ تقرئين بصوتكِ الخفيض،
كانت الحروفُ تذوبُ كالشمع،
وكانت الجدرانُ تُصغي،
كأنها تسمعُ صدى امرأةٍ
لا تخافُ من الحقيقة،
ولا تتوارى خلف الأقنعة.
يا أمي…
حين أكتبكِ اليوم،
لا أكتب عن موتٍ ولا عن فُقدان،
بل عن حياةٍ أبديةٍ
أسكنها كلما قرأتُ كتابًا،
كلما كتبتُ قصيدة،
كلما شعرتُ أن الأدبَ صلاتي
وأنكِ أولُ من أرشدني للقبلة.
يا مَن علمتِني أن اللهَ لا يُعبَدُ بالخوف،
بل يُحَبُّ كما أحببتِني،
بلا شروط،
بلا حساب.

تُمثِّلُ هذه القصيدةُ تحيةً وجنيّةً شعريّةً ترفعها الشاعرةُ إلى أمّها، لكنها لا تصفُ أمًّا عاديةً، بل تُجسِّدُ صورةً لامرأةٍ قدّيسةٍ في مذبحِ الأدبِ والحبِّ غيرِ المشروط. إنها قصيدةُ امتنانٍ تُحوِّلُ الأمَّ إلى فكرةٍ كونيّةٍ عن الخلاصِ بالكلمةِ والجمال، وتخلعُ عليها هالةً من التقديسِ الأرضيِّ الذي يفوقُ قداسةَ الكنائس.


الموضوع والفحوى:
يدورُ موضوعُ القصيدةِ حولَ أمٍّ عَلمَتْ ابنتَها أن الخبزَ للجسدِ والأدبَ للروح، وأن القصائدَ يمكنُ أن تكونَ قوتًا يُشبعُ ويُغني عن الطعامِ الماديّ. إنها تُبرزُ صورةَ الأمِّ القارئةِ العاشقةِ للكتب، التي وجدت في الأدبِ ملاذًا ودينًا، وورَّثتْ هذه القيمَ لابنتها، فصارتْ الأمُّ حيةً في كلِّ كتابٍ تُقرأُ وكلِّ قصيدةٍ تُكتَب.
البنية الفنية والصور:

  1. العنوان: يحملُ العنوانُ مفارقةً عميقةً “خبزُها… كتب، وصلاتُها… قصائد”، فهو يُقيمُ مقابلةً بين ضروراتِ الجسدِ (الخبز) وضروراتِ الروحِ (الكُتب)، وبين العبادةِ التقليديةِ (الصلاة) وعبادةِ الجمالِ (القصائد). هذه المفارقةُ تُلخِّصُ فلسفةَ الأمِّ وحياتَها.
  2. التقديس الأرضي: تبدأُ القصيدةُ بخلعِ صفةِ “القَدِّيسة” على الأم، ولكنْ ليس بالمعنى الكنسيِّ “لَمْ تُزَكِّهَا الكَنَائِسُ”، بل بتقديسٍ إنسانيٍّ نابعٍ من وجودها في مظاهرِ التقوى والبراءةِ الإنسانيةِ الحقيقية: في “سجدة”، و”دمعة تائب”، و”ابتسامة أم”. هذا يُؤسِّسُ لديانةٍ جديدةٍ قائمةٍ على المحبةِ والتضحية.
  3. رمزية الكتاب: يتحوّلُ الكتابُ من أداةٍ للقراءة إلى وسيلةٍ للخلاصِ والنجاة “ستكون نجاتي في عُمرٍ لا يُؤمَنُ فيه بالنجاة”. الأمُّ هنا هي المخلِّصةُ والكاهنةُ التي تُرشد إلى طريقِ النجاةِ عبرَ الأدب.
  4. المفارقة الغذائية: تُكرِّسُ الشاعرةُ فكرةَ الأمِّ التي تَعُدُّ الأدبَ غذاءً بديلاً وأفضلَ “عَدَتْ بِالْكُتُبِ بَدَلَ الْخُبْزِ، وَبِالْقَصَائِدِ بَدَلَ الْحَلْوَى”. الحكمةُ التي تهمسُ بها الأمُّ “الشِّعرُ يُشبعُ أكثر… والقصصُ تنبتُ فيكِ أجنحة” تُصبحُ عقيدةً روحيةً تمنحُ القوةَ والمعنى حين تنهارُ المادياتُ “حين تنكسر الأبواب”.
  5. صوت الأمّ القارئ: تُصوِّرُ الشاعرةُ علاقةَ الأمِّ بالنصوصِ علاقةَ وجدٍ وحُلولٍ “لا تحفظين النصوص، بل تسكنينها”، وتُشبّه قراءتَها بالصلاةِ والتضرعِ الخاشع “كمن يتهجّى أسماءَ الله في العتمة”. الصورةُ هنا عميقةٌ وروحانية، تجعلُ من فعلِ القراءةِ طقسًا مقدسًا.
  6. قوة الحقيقة: صورةُ الجدرانِ التي تُصغي لصوتِ الأمِّ وهي تقرأُ “وكانت الجدرانُ تُصغي” ترمزُ إلى أن كلماتها وقوةَ صدقها تُخرسُ الجمادَ وتجعلُه شاهدًا على امرأةٍ شجاعةٍ “لا تخافُ من الحقيقة، ولا تتوارى خلف الأقنعة”.
  7. الخلود عبر الأدب: تُعلنُ الشاعرةُ أن كتابتَها عن أمِّها ليست رثاءً، بل هي احتفاءٌ بحياةٍ أبديةٍ “بل عن حياةٍ أبديةٍ أسكنها”. الأمُّ هنا لم تمت، بل صارتْ كينونةً مستمرةً في كلِّ فعلٍ أدبيٍّ تقومُ به الابنة، ليصبحَ الأدبُ هو الصلةُ الروحيةُ بينهما “أن الأدبَ صلاتي وأنكِ أولُ من أرشدني للقبلة”.
  8. الإله المحبة: تصلُ القصيدةُ إلى ذروتها الفلسفيةِ والدينيةِ في تصريحها الأخير، حيثُ تورثُ الأمُّ ابنتَها مفهومًا لله قائمًا على المحبةِ غيرِ المشروطةِ، لا على الخوفِ “أن اللهَ لا يُعبَدُ بالخوف، بل يُحَبُّ كما أحببتِني، بلا شروط، بلا حساب”. هذه هي أعظمُ ميراثٍ يمكنُ أن تورثَه أمٌّ لابنتها: تصحيحُ مفهومِ الخالقِ وربطِه بأسمى صورِ العطاءِ الإنسانيِّ، وهو حبُّ الأم.
    إن قصيدة “خبزُها… كتب، وصلاتُها… قصائد” هي أكثرُ من قصيدةِ أمٍّ تقليدية. إنها بيانٌ أدبيٌّ وجوديٌّ يرفعُ شأنَ الكلمةِ والحبِّ إلى مرتبةِ التقديس، ويجعلُ من الأمِّ كاهنةً لهذا الدينِ الجديد. إنها قصيدةٌ عن قوةِ الأدبِ في منحِ الحياةِ معنىً، وعن قوةِ الأمِّ في منحِ الأدبِ روحًا وقلبًا نابضًا. لغةُ القصيدةِ بسيطةٌ وعميقة، وصورُها مبتكرةٌ وشاعريةٌ للغاية، مما يجعلُها نسيجًا وحده في ديوانِ الشعرِ الحديثِ الذي يُمجِّدُ الأمومةَ والفكرَ معًا.

شاهد أيضاً

21 دولة تدين مخطط E1 الاستعماري : يشكّل انتهاكا للقانون الدولي

21 دولة تدين مخطط E1 الاستعماري : يشكّل انتهاكا للقانون الدولي

شفا – قالت 21 دولة بينها المملكة المتحدة وفرنسا في بيان مشترك، اليوم الخميس، إن …