
العيش بلا أمان: الصدمة المركبة وأثرها على الغزيين ، بقلم : هنادي طلال الدنف
ليست كل الجروح تُرى بالعين. هناك جروح أعمق، تسكن الداخل وتعيد تشكيل طريقة تفكيرنا وشعورنا وحتى استجابات أجسادنا. الصدمة المركّبة (Complex Trauma) هي حالة نفسية تتكوّن عند العيش لفترات طويلة تحت الخوف أو التهديد المستمر، بحيث لا يوجد “ما بعد الصدمة” لأن الصدمة لم تنتهِ أصلًا. هذا النوع من الصدمات، وفقًا للدليل التشخيصي الأمريكي للأمراض النفسية، يرتبط غالبًا بالتعرّض المتكرر للشدائد مثل الحروب أو العنف المنزلي أو الكوارث الممتدة.
في غزة، يتحوّل الخوف إلى جزء من تفاصيل الحياة اليومية. انقطاع الكهرباء لساعات وأيام، شحّ المياه، ندرة الطعام، أصوات الانفجارات المتكررة، وفقدان المأوى… كلها أحداث مألوفة ومتكررة. هذا النمط من الحياة يجعل الأمان شعورًا نادرًا، حتى في لحظات الهدوء. فالتجربة علّمت الناس أن الخطر قد يعود في أي وقت، ما يضعهم في حالة استعداد دائم، وكأن أجسادهم وأذهانهم تعيش في وضع الطوارئ على مدار الساعة.
الأشخاص الذين يعيشون تجربة الصدمة المركّبة قد يعانون من مزيج من الأعراض النفسية والجسدية والاجتماعية. بعضهم يبقى متأهبًا لأي خطر حتى في المواقف الآمنة، وآخرون يفقدون القدرة على الشعور العميق بالحزن أو الفرح. كثيرون يعانون من أرق ونوم متقطع وكوابيس متكررة، أو يبالغون في ردود أفعالهم عند سماع الأصوات المفاجئة. كما قد تظهر صعوبات في الثقة بالآخرين أو تكوين علاقات جديدة. وتشير أبحاث منشورة في المجلة الأوروبية لعلم النفس الصدمي إلى أن الضغط المستمر يرفع احتمالية الإصابة بآلام مزمنة مثل الصداع ومشاكل الجهاز الهضمي، نتيجة الإرهاق المستمر للجهاز العصبي.
العيش تحت تهديد مستمر لا يسرق الراحة فقط، بل يعيد برمجة طريقة عمل الدماغ. يصبح التركيز منصبًّا على النجاة، حتى لو كان ذلك على حساب العلاقات أو الطموحات أو الاستمتاع بالحياة. وفي غزة، على سبيل المثال، أفاد تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية عام 2024 أن مستويات القلق واضطرابات النوم لدى السكان بلغت نسبًا غير مسبوقة بسبب استمرار العنف ونقص الخدمات الأساسية. هذه الحالة تجعل الاستمتاع بالأشياء البسيطة أمرًا صعبًا، إذ تبقى العقول والأجساد في حالة إنذار دائم، حتى عند ممارسة أنشطة عادية مثل تناول الطعام أو الجلوس مع العائلة.
في ظل هذه الظروف القاسية، قد لا يكون الهدف هو “الشفاء الكامل” بقدر ما هو التخفيف والتأقلم مع الواقع. يمكن أن تساعد تمارين التنفس العميق أو التأمل في تهدئة الجهاز العصبي، كما أن مشاركة المشاعر مع شخص موثوق أو الانضمام إلى مجموعات دعم قد يخفف من ثقل التجربة. الحفاظ على عادات صغيرة تمنح إحساسًا بالثبات، مثل ترتيب مكان النوم أو تحضير وجبة بسيطة، يمكن أن يخلق شعورًا بالتحكم وسط الفوضى. كذلك، قد يكون للتعبير الإبداعي عبر الكتابة أو الرسم أثر مهدئ، إضافة إلى طلب المساعدة المتخصصة إذا كانت متاحة.
الصدمة المركّبة ليست ذكرى عابرة، بل تجربة تعيد تشكيل الحياة من الداخل. في بيئة يغيب فيها الأمان لفترات طويلة، تصبح مساحات الراحة الصغيرة أشبه بكنز. قد لا نستطيع إيقاف كل أسباب الخوف، لكننا نستطيع خلق لحظات، ولو قصيرة، نسمح فيها لأنفسنا بالتنفس، والشعور، والعيش.
وفي النهاية، تبقى معاناة الغزيين مع الصدمة المركّبة شاهدًا على أن آثار الحروب لا تُقاس فقط بعدد الضحايا والدمار المادي، بل أيضًا بما تتركه من ندوب عميقة في النفوس. ولعل أكبر تحدٍّ اليوم ليس فقط البقاء على قيد الحياة، بل القدرة على الاستمرار رغم الخوف، والتمسّك بلحظات صغيرة من الأمان تمنحهم القوة لمواجهة الغد.