
من قاعة الاتهام إلى حضن الغفران… قراءة في نصّي الإعلامية سامية خالد عرموش ، بقلم: رانية مرجية
افتتاحية
هناك لحظات في الحياة نكون فيها القاضي والمتهم والشاهد في آن واحد. لحظات يختلط فيها الحق بالوجع، والجرح بالحنين، فنقف في قاعة قلوبنا نرفع أصابع الاتهام، ثم ننزلها بهدوء لنفتح أذرعنا للعناق. في نصّيها “أنت متهم” و“أحبك”, تمنحنا الإعلامية سامية خالد عرموش (يعود تاريخ نشر القصائد إلى العام 1998 في صحيفة الاتحاد، وهي من بدايات سامية المهنية) فرصة لمشاهدة هذه المفارقة الإنسانية على مسرح اللغة؛ حيث يبدأ العرض بمطرقة الحكم، وينتهي بحضن الغفران.
أنت متهم
الإعلامية سامية خالد عرموش
أنت متهم بقتل قلب ساذج لا يعرف
ثنائية الحب والكراهية.
أنت متهم بقتل روح لا تعرف غير
الحب دواء…
أنت متهم… فقدم لي دليل براءتك
إن كنت تملك،
ابن سنين الوهم التي قتلت قلبي بالعادات المتأخرة؟!
أنت متهم بقتل أحلامي… بقتل آمالي،
أنت متهم بقتل صباي…
فأي عقاب يليق بك يا أيها ال…
أأقتل قلبك الظالم؟
أم أقتل روحك المتجرفة؟
ولكن أبداً، فكيف أقتل شيئاً قد قُتل؟!
أحبك
الإعلامية سامية خالد عرموش
حتى لو غيرت قناعي بقناع آخر،
ودفنت وجداني عميقاً عميقاً في
فؤادي،
وتحولت كعصا موسى إلى أفعى،
وتغيرت ألواني من أسود لأزرق وأحمر،
وحتى لو كانت سنيني كلها خداع
ونفاق،
فإني لا أستطيع الصمود أمام عينيك،
ولا أستطيع أن أتحول كالفصول أمامك، فسأجبر أن أعود لأصلي…
للوني… لشكلي، لأنني لست ممثلة تتقن الأدوار أمام مخرج عظيم،
وأنا لست بشاعرة تستطيع أن تجذب بعباراتها فيلسوفاً كبيراً،
وأنا لست بساحرة تستطيع أن تغير ما سحرته الطبيعة،
فحتماً سأجبر أن أعود لأصلي للوني ولشكلي،
وأنسج من تجاربي ثوباً يحميني من برد سخرية القدر، ثوباً يبعث في
نفسي شجاعة ممزوجة بقليل من عبر الصدق، لكي أتدفأ بها جيداً وأقول
بلا خوف أو خجل:
إني أحبك…
القراءة النقدية الموسّعة
النصان يقدّمان معًا رحلة عاطفية مكتملة، حيث يبدأ المسار من قاعة الاتهام في “أنت متهم”، وينتهي في حضن الغفران في “أحبك”. الأول يعلو فيه صوت المواجهة والصرامة، والثاني يفيض بالاعتراف والعودة.
١. المحاكمة كطقس وجداني
في “أنت متهم”، تتكرر عبارة “متهم بقتل…” بإيقاع منتظم، يشبه دقات الطبول قبل إصدار الحكم. هذا التكرار ليس مجرد أسلوب بلاغي، بل آلية دفاعية تمنح الذات الجريحة شعورًا بالسيطرة على مشهدها الداخلي، حتى وهي في قمة الانكسار.
٢. من الإدانة إلى الغفران
في “أحبك”، تنقلب المعادلة. هنا تسقط الأقنعة وتذوب محاولات الصمود أمام عيني الحبيب، ليخرج الاعتراف العاري: “إني أحبك”. إنه غفران لا يلغي الجرح، بل يضمّه، واعتراف بأن القلب، مهما حمل من غضب، لا يعرف أن يختتم الحكاية إلا بالحب.
٣. الرموز والتحوّل
• “كعصا موسى إلى أفعى” → تحوّل درامي يعكس الانقلاب الداخلي الذي قد يعيشه القلب.
• “ثوب يحميني من برد سخرية القدر” → استعارة للحماية الذاتية التي تُبنى من خيوط التجربة والصدق.
هذه الرموز تنقل النص من حيز الاعتراف الشخصي إلى فضاء أوسع، حيث العاطفة تتماهى مع الأسطورة والرمز.
٤. البعد النفسي
“أنت متهم” تعكس مرحلة الغضب والرفض، بينما “أحبك” تجسد القبول وإعادة التشابك العاطفي. هذه الحركة البندولية تكشف التناقض الأزلي في الحب: الحاجة لحماية الكرامة، والرغبة في الحفاظ على الآخر.
٥. الفلسفة الشعورية
البنية الدائرية – من الاتهام إلى الاعتراف – تقول إن الحب والخذلان ليسا نهايتين متقابلتين، بل هما تياران في النهر ذاته، تتغير ملوحتهما لكن مجراهما لا يتوقف.
٦. البعد الجمالي واللغة
في “أنت متهم”: اللغة قصيرة، حادة، ذات وقع مطرقي يرسّخ صورة المحكمة والانفعال.
في “أحبك”: اللغة ممتدة، انسيابية، غنية بالصور، وكأنها تنهار من التصلب إلى الانفتاح.
الصور هنا ليست للتجميل، بل للتجسيد: الأولى أسطورية (“عصا موسى”)، والثانية حسية (“ثوب يحميني”)، وكلتاهما تمنح النص عمقًا بصريًا وشعوريًا.
خاتمة
في هذين النصين، تكتب الإعلامية سامية خالد عرموش مواجهةً لا تختمها إدانة، واعترافًا لا يشوبه تبرير، لتقول إن القلب البشري ليس قاعة أحكام نهائية، بل مسرحًا دائمًا للتناقضات، حيث يمكن للحب أن يخرج من قلب المحاكمة، ويجلس في الصف الأول من حضن الغفران.