
غزة.. مدينةٌ تُطعم العالم وجعها ، بقلم : محمد علوش
في قلب هذا الكون المزدحم بالصمت، تقف غزة عاريةً إلّا من جوعها، مدينة محاصرة بين الرمل والبحر، لا تسمع سوى صرير المعدة وهي تئنّ من خواء الأيام، ولا ترى إلا أطفالاً يطاردون كسرة خبز، كأنهم يطاردون الحياة ذاتها، والعالم كلّه يشاهد صورهم المتدفقة على الشاشات: وجوه هزيلة، عيون غائرة كأنها نافذة على قعر المأساة، أمهات يخبزن بالحطب والحجارة بقايا ما تبقّى من الطحين، وآباء يحدّقون في صغارهم بوجعٍ يعجز عن وصفه الكلام.
إنه مشهد يفوق كل سرديات القسوة: أيدي صغيرة تمتد إلى السماء لا تطلب لعباً ولا حلماً، بل تطلب ما يسد رمق الروح، فأطفال غزة صاروا يعرفون الجوع أكثر مما يعرفون المدرسة أو اللعب في الأزقّة، وفي كل بيت هناك حكاية خبز غائب، وصحن خاوٍ، وذاكرة تتضخم من انتظار مساعدات قد لا تأتي أبداً.
العالم يراهم، يلتقط الصور، يحصي العظام النافرة تحت الجلد، ثم يواصل حياته، لكن غزة، بدمها وجوعها، ترفض أن تكون مجرد صورة عابرة في نشرات الأخبار، إنها تصرخ في وجه البشرية: أيّها العالم، نحن لسنا ظلالاً على شاشاتك، نحن لحم ودم وأحلام تُطحن كما يُطحن القمح الذي لم يصل.
في مشاهد الحصار، يصبح الخبز أغلى من الذهب، وحفنة الملح كنزاً، وقطرة الماء حياة كاملة، ترى الأمهات يقطعن حصص الطعام إلى أجزاء صغيرة، كي يتقاسمها الأبناء بالتساوي، كأنهن يعلّمنهم معنى العدالة في قلب المجاعة، والآباء يبتسمون زوراً ليخفوا مرارة العجز، وحتى الطيور التي تحلّق فوق غزة، تبدو كأنها تشهد أمام العالم على موت الضمير.
صور غزة اليوم ليست مجرد صور جوع، بل صور الإنسانية وهي تتداعى أمام أعيننا.. منازل بلا سقف، موائد بلا طعام، أحلام بلا أفق.. ورغم ذلك، ترى وجوهاً صغيرة تبتسم في لحظة عابرة، كأنها تقول: لن تهزمونا.
إن مشاهد التجويع هذه ليست قدراً، بل فعل متعمد يُرتكب أمام عيون العالم، وغزة لا تطلب الكثير؛ تطلب فقط أن تعيش بكرامة، أن يجد أطفالها ما يملأ بطونهم قبل أن يملؤوا قلوب العالم بوجعهم، لكن الصمت طويل، والصور تزداد وجعاً، والمأساة تتكرر كأنها قدرٌ مكتوب على هذه الأرض التي لا تعرف سوى الامتحانات الكبرى.
غزة اليوم تعلّمنا درساً قاسياً: أنّ الجوع ليس فقط حرمان الجسد من الطعام، بل هو أيضاً تجويع الروح من الأمل، ومع ذلك، فهي، كما كل مرة، تنهض من تحت الركام، تلمّ فتات الحياة، وتزرع في بساتينها اليابسة وعداً صغيراً بأن الشمس ستشرق يوماً.
غزة، المدينة التي تطعم العالم وجعاً، تأبى أن تموت.