9:31 صباحًا / 2 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

النزوح المتكرر أداة الموت البطيء في غزة ، بقلم : د. مي حسن عطية

النزوح المتكرر أداة الموت البطيء في غزة ، بقلم : د. مي حسن عطية

وسط أنقاض مخيم الإيواء التي طواها الدمار، بعد أوامر إخلاء جديدة، تجُرُّ أمٌّ أطفالَها هربًا من قذيفة تُنَاذِرُ خيمتَها، بعد دخولٍ مفاجئ للدبابات إلى المخيم. تجُرُّهم كظلِّها الملتصق، ظلٌّ لا يُفارقُ جسدًا ولا روحًا. تتحرَّكُ ومعها بقايا خيمةٍ ممزَّقة، فوق عربةٍ بالية، تحت وهج شمسٍ قاسية، كأنما تدفعُها عبر صحراءَ من الرماد.


تحمل صدمةٌ ممزوجةٌ بالقهر حين تحوَّل الملاذُ الآمن الذي ظنَّتْهُ في عينها، إلى فخٍّ حاصرَتْهُ دبابات، فأضحى حُلُمًا واهيًا كسراب. ومع ذلك تدفع العربةَ وكأنها تدور في حلقةٍ مفرغةٍ، حلقةٍ لا تُحصى ولا تنتهي. في زاويةٍ أخرى تحدِّقُ الأمُّ في الأفق كمن يبحث عن خلاص، لم تصرخ لكن دموعَها الجافة نقشت أسماء الضحايا على صدر الألم.

حولها تساقطت أوراق الإخلاء من الجدران، ممزقةً تحت عجلات الدبابات الباطشة، كخريفٍ قاسٍ بلا رحمة. وفي قلب المشهد، وسط رمادٍ يتطاير كشبح المدينة، وقف الرجل وحيدًا على أنقاض خيمته المحترقة، رافضًا الرحيل رغم التهديد: “لن أترك خيمتي التي نزحت موخرًا إليها بعد تسع مرات نزوح


لم يبقَ فيه سوى صرخةٌ وحيدة تشق صمت الكارثة:


“إن كان الرحيل حتمًا… فاحفروا قبري هنا الآن لن اننزح”.


ارتعش صوتُه كشرارة في مهب ريح عاتية، ثم ذاب في الهواء الثقيل، كأنما ابتلعه الفراغ.


هذا هو واقع غزة اليوم: أوامر الإخلاء الفجائية، سواء عبر الهاتف أو المناشير الورقية، لم تعد إجراءات عابرة، بل تحولت إلى مِحْجَرٍ يسحق النسيج النفسي البشري. فالناجون من القصف لا يمرون بمراحل الحزن الخمس التي تتمثل بالإنكار والغضب والمساومة والاكتئاب ثم القبول بل يُسقَطون في حلقة مفرغة من الصدمات المتتالية. كلما اقتربوا من استيعاب صدمة، تدفعهم صدمة جديدة إلى حافة الهاوية.


وهنا يتعاظم الألم حين يصير النزوح حلقة مكررة: كل إخلاء جديد يمزق الجروح القديمة قبل أن تلتئم. لا وقت للبكاء ولا مساحة للتفجع، فالرحيل المفاجئ يحوِّل حقيبة النجاة إلى كابوس متجدد. كيف تتكيف نفس بشرية مع انعدام الجذور؟. كيف تبني توازنًا في حياة تقتلع منها كلما بدأت محاولات الاستقرار الموقت؟. وهنا يصبح التشريد سكينًا يقطع أوصال الذاكرة، ويحول الهوية إلى أشلاء متناثرة بين المخيمات.


تقول إحدى الناجيات من تحت الأنقاض بصوت منهك: “كلما أغمضتُ عينيّ أسمع صوت الصاروخ الذي نزل فوق منزلي وقتل أطفالي”.

يفجِّر التعرض المتكرر للصدمات آلية العجز المكتسب، حيث يتوقف الدماغ عن المقاومة بعد تكرار الضربات، ويفقد العقل قدرته على توقع الأمان، وينهار حين تستهدف ما يُسمى مناطق آمنة، تلك التي صارت أوهامًا تطاردها الأصوات. الحرب لم تدمر الحجر فقط، بل مزقت النسيج النفسي والاجتماعي إربًا. التشريد هنا ليس نقلًا مكانيًا، بل تدميرًا متعمدًا لفكرة الأمان نفسها.

وهكذا يعيش الإنسان في قبر نفسي يُدفن فيه الماضي، ويُحذف المستقبل، ولا يبقى سوى حاضر مفتت، تحمله خيمة ممزقة فوق أرض مهزومة، كآخر أثر للكرامة. تلك الخيمة نفسها التي جرَّتها الأم من بين الأنقاض هربًا من الموت، وشهدت دموع الرجل الذي فضل الموت على ترك تراب وطنه… واصبحت الخيم وطن الجميع.

  • – د.مي حسن عطية – دكتورة ومستشارة نفسية – غزة – فلسطين .

شاهد أيضاً

اسعار الذهب اليوم

اسعار الذهب اليوم

شفا – جاءت اسعار الذهب اليوم الجمعة 1 أغسطس كالتالي : سعر أونصة الذهب عالمياً …