3:37 مساءً / 18 يوليو، 2025
آخر الاخبار

غيابٌ على أرصفة المدينة ، بقلم : محمد علوش

غيابٌ على أرصفة المدينة ، بقلم : محمد علوش

في صباحٍ رماديٍّ من كانون، حيث تتدلى الغيوم كأنها ستلامس قبة الصخرة من بعيد، خرجت من بيتي في حي الطيرة، أسير باتجاه المدينة التي لا تكلّ عن العتب، رام الله، تلك التي تشبه قلباً يتعب ولا يتوقّف، تنتظرني كعادتها دون أن تسألني عن الوقت أو الوجع.


عند المنارة، كانت الحمائم تمارس عادتها القديمة، تدور حول الأعمدة الأربعة كأنها تحرس ذاكرة المدينة، العجوز الذي يبيع الكستناء كان هناك، يهمس للنار ويحرك المقلاة فوق الجمر، ولا يكلّ من الانتظار، والوجوه تتغير من حوله، لكنه يبقى، هناك شيء في ثباته يربكني، كأننا جميعاً نمرّ وهو وحده الباقي.


المدينة تمشي بسرعة.. وأنا أمشي ببطءٍ مقصود، أخاف أن تفوتني التفاصيل، أقترب من شارع الإرسال، حيث الأصوات تختلط بأزيز المركبات، وصخب الحياة يشبه ضجيج البحر عند اشتداد الريح، والمارة لا ينظرون في العيون، يمشون كأن كل واحد منهم يحمل سرّاً، أو فشلاً ما، أو رسالة لم تكتب بعد.


في الطريق إلى شارع ركب، بدا كل شيء كما هو، الأرصفة التي تحفظ وقع أقدامنا، أبواب المحال القديمة التي تنوء بثقل الأيام، والباعة الذين ينادون دون أن يسمعهم أحد، وعلى الجهة المقابلة، مقهى العربي، ما يزال يفتح ذراعيه لكل من أضاع موعداً أو نصاً أو فكرة.


جلستُ هناك، الطاولة ذاتها التي كنت ومحمد نرتادها كل مساء خميس، هو يطلب قهوته سادة، وأنا أطلبها مزاجية، كان يقول لي دائماً: “المدينة لا تنسى، لكنّها لا تنتظر أحداً”، ضحكته كانت حادة، كأنها تكشف عمقاً في حزنه، والآن، لم يبقَ من تلك الضحكة سوى الفراغ الذي يرنّ في أذني.


سألت النادل عن محمد. هزّ رأسه بأسى وقال: “من وقت الحرب الأخيرة، ما عاد حدا شافه…”. لم يحتج أن يوضح أكثر، الكلمة تكفي، فالغياب في رام الله لا يُعلن نفسه، فقط يُترك كندبةٍ على أطراف الكلام.


خرجتُ أتمشّى، مررتُ بباب الأزبكية، ذلك الدكان الذي يبيع الكتب بنصف ثمنها لكنه يحتفظ بأغلاها على الرفوف العليا، كأنه لا يريد التفريط بكنوزه، هناك قرأت مرة لمحمود درويش وهو يغني: “هذي البلادُ لنا…”، وهناك أيضاً دلّني محمد على ديوان قديم لأمل دنقل، وقال: “خذ، هذا الصوت الذي يشبهك”.


كم مرة سرنا معاً من الأزبكية حتى الحاجز؟ وكم مرة خططنا لكتابة شيءٍ يليق بالمكان، شيء لا ينكسر مع أول هجمة غاز أو أول خبر اغتيال؟


الوجوه التي مرّت بي اليوم كانت مألوفة بشكل غريب، كأن الزمن قد التوى على نفسه، بعضهم لم يتغيروا، فقط زادت التجاعيد حول العيون، وبعضهم كانوا يشبهون من غابوا، رأيت رجلاً يشبه محمد، يمشي بنفس الطريقة، يضع يده اليمنى في الجيب، ويحدق في الأرض، لكن عينيه كانتا غريبتين، ليس فيهما ذاك الوهج، ولا ذاك الشغف الهادئ الذي كان يضيء وجهه حين يتحدث عن الشعر، أو فلسطين، أو المرأة التي أحبّها ولم تَعُد.


عدت إلى المنارة، متعباً كأنني اجتزت نهراً خفياً من الغياب، الحمائم ما زالت هناك، لكنها لم تكن تدور، بل تنقر الأرض ببطء، تبحث عن فتات الخبز الذي نثره صبيٌ صغير بملل، الشمس بدأت تطلّ بخجل من خلف الغيم، تماماً كما كانت تفعل في الشتاءات الماضية، لا شيء تغيّر في المدينة، سوى أننا صرنا أقلّ.


رام الله، في هذا الصباح، بدت لي كأنها تناديه، كل زاوية، كل مقهى، كل عطرٍ عابر، كان يقول: “أين محمد؟”
لكن محمد لا يرد، ومثل كل من أحبّ المكان أكثر مما يجب، اختار أن يغيب في صمت.

شاهد أيضاً

إصابة طفل بالاختناق خلال قمع الاحتلال مسيرة ضد الاستيطان في رابا جنوب شرق جنين

إصابة طفل بالاختناق خلال قمع الاحتلال مسيرة ضد الاستيطان في رابا جنوب شرق جنين

شفا – أصيب طفل بالاختناق بالغاز المسيل للدموع، إثر قمع جيش الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الجمعة، …