
المشروع الوطني أمام قارعة قاطعي الطرق ، بقلم : آمنة الدبش
افرزت حرب الإبادة على المجتمع الفلسطيني عواقب غيرت من واقعه وملامحه وخلقت ندوباً في النسيج المجتمعي وتماسكه بشكل جذري وتركت بصماتها على قيمه وسلوكياته وقلبت موازينه بواقعاً مريراً مليئ بالتحديات فرض عليه أن يعيد تشكيل مفاهيمه عن الأمن والاستقرار.
من لم يقتله القصف قتله الجوع
يعيش الشعب الفلسطيني حالة مأساوية بين سندان الجوع الذي ينهش الأجساد ومطرقة الحرب التي تفتك بكل مقومات الحياة لتعيد إلى الذاكرة أسوأ صفحات الحروب البشرية ، ابادة جماعية يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة لا تقتصر على القصف الصاروخي والمدفعي المستمر للبشر والحجر دون تمييز بين صغير أو كبير بل تخطت كل الحدود باستهداف كل ما يضمن فناء الشعب الفلسطيني فمنذ أشهر يستخدم الاحتلال الغذاء كسلاح للتجويع وعقاب جماعي موثق بالشهادات والصور والأرقام بحق أكثر من مليوني مدني ، جريمة حرب مكتملة الأركان بكارثة إنسانية فمن لم يستشهد بالقصف قتله الجوع.
همسة عتاب
الشعب الفلسطيني يمتلك إرثاً تاريخياً ونضالياً طويلًا ومشرفاً في مواجهة الاحتلال دفاعاً عن الأرض والهوية والكرامة واستعادة حقوقه بدءاً من الثورات الشعبية وصولاً إلى المقاومة المعاصرة ،حمل قضيته على كتفيه جيلاً بعد جيل ، صمد في وجه الابادة الجماعية والتطهير العرقي والحصار وسلاح التجويع والتشريد.
فكيف يقبل أن يلطخ هذا التاريخ العريق الحافل بمحطات وتضحيات نضالية بأعمال النهب والسرقة..؟ على يد فئة لا تمثل الوطن بأي شكل من الأشكال فما يحدث من ممارسة أعمال السلب المخزية والسرقة والاستيلاء على شاحنات المساعدات الإنسانية تصرفات لا تليق بقيم شعبنا العظيم المعروف بأصالته وشهامته وكرامته ولا تمثلنا ولا تعبرعن وجع الأمهات ولا عن كرامة المقاوم ولا عن الشهداء الذين ارتوت الأرض من دمائهم ولا من أفنوا زهرة حياتهم من أجل قضية وطن وحكاية شعب لا يموت.
لهذا يحتم علينا واجبنا الوطني ومسؤوليتنا المجتمعية أن لا نقف مكتوفي الأيدي ولا نصمت إزاء الأفعال المشينة ونوجه همسة عتاب نقولها لا بحدة بل بألم ما صدر من أفعالكم لا يشبه هذا الوطن ولا يعبر عن وجدان شعب ضحى ليبقى شامخاً ما نهبتموه ليس مالاً فحسب بل انتهكتم كرامة وطن وخنتم تضحيات أجيالٍ بذلت أرواحها من أجل وطن لا يهان.
العشائرية والقبائلية
جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع الفلسطيني مظلة حماية وعدالة تحمل في طياتها قيماً إيجابية ودوراً اجتماعياً هاماً لكنها ليست بديلاً عن الدولة أو مؤسساتها الرسمية بل هي شريك اجتماعي تساهم في دعم النظام والاستقرار وحماية المال العام وتعزيز العدالة الاجتماعية والتزامها بالقيم الأخلاقية والمجتمعية من خلال محاسبة المخطئ داخل العشيرة ، لكن بآخر فترة تراجع دورها في كثير من الأحيان أمام مظاهر الفساد ونهب شاحنات المساعدات الإنسانية فبدلاً من أن تكون العشائر والقبائل رقيباً مجتمعياً يحافظ على الاستقرار الأمني والمجتمعي وفض أعمال الشغب والفوضى ومحاسبة الفئة التي تطاولت على حق ليس حقهم تحولت في بعض المناطق إلى بيئة حاضنة للتواطؤ أو الصمت إما بحجة الحماية الاجتماعية أو بدافع الولاء الأعمى لأبنائها.
في حين تبرأت بعض العشائر والقبائل بشكل واضح من أعمال السرقة والنهب التي تطال المساعدات الإنسانية مؤكدين رفضهم التام لهذه التصرفات التي تضر بالمجتمع وتخدم أجندات تهدد تماسكه واستقراره وأكدت العشائر على أهمية حماية المساعدات وضمان وصولها إلى مستحقيها داعية الجميع إلى التعاون في محاربة هذه الظاهرة والعمل على تعزيز القيم الوطنية والاجتماعية التي تحمي النسيج المجتمعي من التفكك والانهيار.
عصابات تحت غطاء الاحتلال
ما أشبه اليوم بالأمس الصحوات العراقية او( قوات الصحوة) وهي جماعات مسلحة ظهرت في العراق بعد عام 2006م بدعم من الولايات المتحدة فالتاريخ يعيد نفسه بنفس الأساليب والأدوات حيث ظهر فجأة بقطاع غزة اسم غريب على الأوساط السياسية والأمنية “حركة أبو شباب” يقودها شخص يدعى ياسر أبو شباب تحول من سجين جنائي إلى قائد ميليشيا مسلحة تحت غطاء وتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي تهدف هذه العصابات إلى تنفيذ أجندات تخدم المصالح الصهيونية عصابات لم تكن معروفة سابقاً سرعان ما تحولت إلى مادة دسمة في الإعلام العبري والغربي على حد سواء لكن خلف هذا الاسم تكمن واحدة من أخطر المحاولات الإسرائيلية لإعادة تشكيل المشهد الأمني والسياسي في غزة عبر مشروع عنوانه “تسليح العشائر” وجوهره تفكيك بنية المقاومة وإحلال أدوات جديدة بديلة لا تمثل طموحات الشعب الفلسطيني بل تدار من غرف الاستخبارات الصهيونية.
اللافت أن الدافع الإسرائيلي من وراء تسليح العشائر ليس فقط أمنياً بل سياسياً واستراتيجياً ففي مقال للجنرال الإسرائيلي المتقاعد عميت يغور في صحيفة معاريف صرح بوضوح أن “تسليح العشائر قد يكون المفتاح لإسقاط حركة حماس ومنع إقامة دولة فلسطينية وهو ما يكشف الهدف النهائي من هذه الاستراتيجية تفتيت بنية المقاومة وتمزيق النسيج الاجتماعي في غزة واستبدال القوى الوطنية الفاعلة بكيانات عشائرية ضعيفة ومأجورة لا تمتلك مشروعاً وطنياً أواستقلالية حقيقية.
أساليب الاحتلال المخفية
لم يكتفي الاحتلال بسياسات القمع والقتل والتجويع بل عمل بشكل ممنهج على ضرب النسيج الداخلي في قطاع غزة مستخدماً أدوات خبيثة تقوم على زرع الفتن وزعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي وتأجيج الخلافات ودعم مظاهر الفلتان الأمني والفوضى فالاحتلال يدرك أن وحدة الجبهة الداخلية هي خط الدفاع الأول ولذلك يسعى لتفكيكها من الداخل بإثارة الفتن الداخلية من خلال السيطرة على الموارد والمساعدات الإنسانية بالنهب والابتزاز غير بث الشائعات وتشجيع الانقسامات والتسلل عبر أدوات تخدم مشروعه دون وعي أو وطنية الهدف واضح إرباك المجتمع ضرب الثقة بين أبناء الشعب الواحد وإشغال الجميع بمعارك جانبية تبعدهم عن الصراع الحقيقي مع الاحتلال مما يسهل فرض السيطرة والسياسات الصهيونية.
الاحتلال لا يكتفي بالسيطرة الجغرافية بل يسعى لتفكيك نواة المجتمع الفلسطيني وزعزعة نظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية وضرب هويته الوطنية عبر وسائل متعددة ومعقدة لكن رغم ذلك فإن الشعب الفلسطيني لا يزال صامداً حياً، مقاوماً، متجذراً في أرضه بل ويثبت يوماً بعد يوم أن كل مخططات الاحتلال فشلت في تحقيق أهدافها ، الاحتلال قد يقتل جسداً لكنه لا يستطيع قتل فكرة ولا طمس ذاكرة ولا إلغاء هوية وطن.