
بين أزمات الاحتلال وأزماتنا: حين تُضاعف الثقافة المحلية من المعاناة ، بقلم : د. عمر السلخي
قراءة في أزمة البنزين والغاز والحواجز وانعكاساتها على السلوك المجتمعي الفلسطيني
الاحتلال… الجذر الأساسي للأزمة
منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً، يعيش الفلسطينيون تحت نير احتلال عسكري ممنهج يتحكم في الأرض، والمقدرات، والحركة، والموارد. الأزمات اليومية، من انقطاع الوقود إلى إغلاق الحواجز والبوابات، ليست مجرد مشكلات خدمية عابرة، بل هي نتيجة مباشرة لسياسات الاحتلال الإسرائيلي التي تسعى إلى تقويض البنية التحتية الفلسطينية، وإضعاف قدرة الفلسطيني على الصمود، وجعله يلهث وراء أبسط مقومات الحياة.
في أزمة البنزين، تظهر قبضة الاحتلال جلية من خلال سيطرته على معابر الاستيراد والتحكم في كمية الوقود المسموح بدخولها، ما يؤدي إلى شح الإمدادات وارتفاع الأسعار. أما في أزمة الغاز المنزلي، فإن ذات القبضة تمنع دخول الشحنات أو تؤخرها، مما يؤدي إلى نقص حاد في التوزيع، وتعطيل حياة آلاف الأسر التي تعتمد عليه في الطهي . وفي أزمة الحواجز والبوابات، يُمنع المواطن من الوصول إلى مدينته أو أرضه أو عمله، بسبب قرارات عسكرية تعسفية تُصدرها سلطات الاحتلال دون إنذار أو سبب منطقي، ما يخلق حالة دائمة من الإرباك والتوتر.
الاحتلال، إذن، ليس غائباً عن المشهد، بل هو المتسبب الأول في بيئة الأزمات المتكررة، ويجب تحميله المسؤولية السياسية والإنسانية الكاملة عن هذه الممارسات التي تمسّ حياة ملايين الفلسطينيين يومياً.
أزمة أخلاق في ظل الأزمة
ومع الاعتراف بأن الاحتلال هو السبب الجذري، إلا أن الواقع يُظهر أن هناك أزمة موازية، لا تقل خطورة عن الأولى، تكمن في الذات الفلسطينية. حين تواجه الناس أزمات الحواجز أو البنزين أو الغاز، لا يواجهونها بوصفهم مجتمعًا موحدًا متضامنًا، بل في كثير من الأحيان بوصفهم أفرادًا في صراع على الموارد، فينتشر التزاحم، والتجاوز، وخرق الدور، وغياب الاحترام، وكأن الأزمة تُبيح الفوضى وتُشرعن الأنانية.
في طوابير البنزين، تجد من يقف ساعات طويلة باحترام، بينما يأتي آخرون متجاوزين الطابور دون خجل، وربما بقوة السلاح أو النفوذ أو الحيلة. وفي محلات توزيع الغاز، تتكرر الظواهر ذاتها: احتكار، تسابق على الأسطوانات، تدخل للواسطة، وغشّ في الوزن. في نقاط التفتيش، بدلاً من أن تسود روح الصبر الجماعي والتعاون، تتكرّس ممارسات الازدحام، والتدافع، والتلاسن. هذه السلوكيات لا تزيد من فعالية الأزمة فحسب، بل تفتح بابًا للتنازع الداخلي، وكأن الاحتلال وجد فينا حليفًا غير مباشر من خلال ضعف ثقافة النظام والاحترام.
أزمة الثقة المجتمعية
لا تنبع الفوضى فقط من غياب السلوك الفردي المنضبط، بل من أزمة ثقة جماعية تتعمق مع كل أزمة جديدة. فالمواطن لا يثق أن الآخر سيحترم دوره، ولا يثق أن النظام سيطبق العدالة، ولا يثق أن هناك سلطة أو إطارًا سيُنصفه في حال التزامه بالقواعد. لذا، يفضل أن “يتجاوز” قبل أن يُتجاوز، وأن “يأخذ حقه بيده” قبل أن يُهضم.
في أزمة الغاز، تتجلى هذه الأزمة بوضوح. من يلتزم بالطابور يشعر بالإحباط عندما يرى من يحصل على الأسطوانة خارج النظام. ومن يشتري الغاز بسعر رسمي يشعر بالإهانة حين يرى آخرين يدفعون أكثر ويحصلون عليه أولاً. هذا الانهيار في العقد الاجتماعي بين المواطنين، وبين المواطن والدولة، يعكس تآكلاً في البنية المجتمعية، ويحول الأزمات من كونها لحظات تحدٍ جماعي إلى فرص للفردانية والانقسام.
الاحتلال لا يُبرر الفوضى… والمسؤولية مشتركة
نعم، الاحتلال يخلق بيئة الأزمات، لكنه لا يُبرر التجاوز ولا يُعفي الفرد من مسؤوليته الأخلاقية والمجتمعية. ففي مواجهة ظروف القهر، لا بد من استحضار قيم التضامن والاحترام والعدل، لا استدعاء الفوضى والانتهازية. سواء في محطة الوقود أو في مركز توزيع الغاز أو على حاجز عسكري، فإن السلوك القائم على الالتزام والنظام هو شكل من أشكال المقاومة اليومية.
المطلوب اليوم ليس فقط مقاومة الاحتلال، بل مقاومة التفكك الداخلي، والعمل على ترسيخ ثقافة النظام، ومحاسبة السلوكيات السلبية، وبناء وعي جمعي ينهض بالمجتمع رغم الاحتلال، لا بسببه.
نحو خطاب مزدوج… مواجهة الخارج وبناء الداخل
المطلوب هو خطاب فلسطيني مزدوج:
خطاب سياسي حقوقي يُحمّل الاحتلال كامل المسؤولية عن الأزمات، ويُطالب المجتمع الدولي بالتدخل الجاد لوضع حدّ لسياساته العقابية الجماعية التي تعرقل إدخال البنزين والغاز وتُقيد حرية التنقل.
وخطاب اجتماعي تربوي يستنهض القيم الوطنية والإنسانية، ويُعيد الاعتبار لاحترام الدور، والتعامل الأخلاقي، والثقة بالآخر، والنظام العام، حتى في أقسى الظروف.
فما يفعله الاحتلال بنا هو قهر ممنهج، وما نفعله بأنفسنا في ظل هذا القهر يُضاعف من حجم الألم، ويؤجل لحظة الانتصار. التحرر لا يكون فقط من الجدار والسلاح، بل من أنانية السلوك وفوضى القيم.
بين الطابور والحاجز… معركة وعي
في فلسطين، لا تقتصر المعركة على الأرض، بل تمتد إلى الوعي والسلوك. من الطابور في محطة الوقود إلى صف انتظار أسطوانة الغاز، ومن بوابة القرية إلى شارع المدينة، هناك صراع يومي بين قيم الانضباط وقيم الفوضى، بين الاحترام والتجاوز، بين التضامن والانقسام.
إن معركة الوعي هي معركتنا الداخلية الكبرى، التي لا تقل أهمية عن أي مواجهة مع الاحتلال، فالمجتمع الذي يحترم نفسه، يفرض احترامه على المحتل، ويمتلك أدوات صموده حتى في ظل الحصار، والبيت الذي يتقاسم فيه الناس الغاز والطعام والطريق، هو بيتٌ لا يُكسر، حتى لو طاله القيد من كل الجهات.