
“جلاديو” فلسطين .. خناجر الداخل وصدى الخيانة ، بقلم : الصحفي سامح الجدي
في الأمس البعيد، كانت الطعنات تأتي من الخلف، نعرفها متأخرين، ونقاوم آثارها بالأمل والرصاص والدفاتر. أما اليوم، فالخناجر تخرج من بين أصابعنا، من بيننا، ممن يشبهوننا، ويتكلمون لغتنا، ويلبسون قمصان القضية وهم يحملون في جيوبهم مفاتيح بوابات العدو.
“جلاديو فلسطين” ليسوا شبحًا ولا خرافة. إنهم أولئك الذين يتسللون إلى جسد الثورة بأقنعة العمل المدني، ويندسون في صفوف الصحافة، وفي غرف المؤتمرات، وعلى منصات التواصل، ليحرفوا البوصلة قليلًا .. قليلًا .. حتى تُفلت من يد الحقيقة.
وهم الوطنية المغشوشة
يتحدثون عن فلسطين، لكن فلسطينهم بلا مقاومة، بلا شهداء، بلا وجع. فلسطينهم مدينة سياحية ذات طابع تراثي، يبيعونها على هيئة شعار في منتدى، أو مشروع ممول، أو صورة مطبوعة في تقرير سنوي لمؤسسة أجنبية.
يتقنون لغة “الواقعية” .. تلك التي تطلب منك أن تتنازل عن حقك في العودة، وتقبل بجدار الفصل كحدود نهائية، وتنسى أن غزة محاصرة، والقدس مستباحة، والضفة مقسّمة ككعكة باردة.
خطة هادئة لتفكيك الذات
هؤلاء لا يطلقون الرصاص، بل يطلقون الشك، والملل، والتشكيك في كل شيء.
يفككون الحكاية الكبرى إلى قصص صغيرة بلا معنى:
من فدائي إلى ناشط،
من شهيد إلى ضحية،
من وطن إلى “قضية نزاع”،
ومن مقاومة إلى “أعمال عنف”.
إنهم جلاديو العصر الفلسطيني، لا يزرعون العبوات، بل يزرعون الكلمات التي تهدم الوعي، ويصنعون منابر تطالبك بالكف عن الحلم، وتدربك على أن تقبل الحياة تحت الاحتلال كأمر طبيعي.
أذرع ناعمة .. بقلوب قاسية
لا يحملون بنادق، بل مقترحات. لا يحفرون الأنفاق، بل الحفلات. لا يحرسون الحدود، بل يكتبون تقارير “تنموية” ممولة تطالبنا بالحياد في معركة البقاء.
وجوههم مألوفة، أصواتهم وديعة، لكن أرواحهم منسلخة عن شعبٍ يقف عاريًا تحت القصف، ويحفر بيديه خندق الكرامة.
أصعب المعارك تلك التي في الداخل
أن تقاتل العدو، فأنت شهيد.
أن تقاتل الخذلان، فأنت مقاوم.
لكن أن تقاتل من يحاول انتزاع قضيتك من داخلك، ببطء، بكلام ناعم، بمصطلحات دولية، وبذوق أكاديمي .. فتلك معركة طويلة، تبدأ بالوعي، وتنتهي بالثبات.
جلاديو فلسطين ليسوا من خارجنا .. بل من بيننا.
ولذلك، فإن أكثر ما نحتاجه اليوم ليس كشف هوياتهم فقط، بل استعادة إيماننا البسيط بأن من يزرع وردًا على بوابة معسكر، لا يشبه من زرع قنبلة في طريق دبابة.
وأن فلسطين، كما كانت دومًا، لا تُسترد بالتقارير ولا بالمصطلحات، بل بالعاشقين الذين اختاروا أن يصدقوا أن الحلم إن لم يُحمَ بالسلاح، سيموت بالكلمات.