3:45 مساءً / 20 يونيو، 2025
آخر الاخبار

الضمير في قفص الاتهام ، بقلم : د. سماح جبر

الضمير في قفص الاتهام ، بقلم : د. سماح جبر

الضمير في قفص الاتهام ، بقلم : د. سماح جبر


في زمن تزداد فيه القسوة ويُستهدف فيه الضمير كما يُستهدف الجسد، نُدهش من قدرة العالم على معاقبة من يتعاطف أكثر من معاقبة من يقتل. رأينا في مستهل حرب الإبادة على غزة كيف يتم امتحان كل من يستضاف للحديث عن فلسطين في الإعلام الغربي بسؤال مفصلي: “هل تشجب حماس؟” وفي القدس حيث أقيم، تمت مساءلة مديرة مدرسة قديرة لأنها نعت تلميذًا في مدرستها قتله الاحتلال، وسمعت مؤخرًا مراسلة الجزيرة نجوان السمري تتحدث عن محاسبة ممرضة فلسطينية في القطاع الطبي الإسرائيلي لأنها تلبس الأسود وظنوا أنها تفعل ذلك حدادًا على ما يحدث في غزة.

في هذا السياق المشحون، لا يمكن تجاهل المشهد العالمي الذي يسخر من الأصوات المتعاطفة. خلال اليومين الماضيين، سخر دونالد ترامب مجددًا من الناشطة البيئية غريتا تونبرغ، قائلاً إنها “امرأة غاضبة جدًا” وتحتاج إلى “الالتحاق بدورة لضبط الغضب”، مكررًا بذلك أسلوبه القديم في التنمر على من يُظهر مشاعر قوية تجاه قضايا أخلاقية. هذا النوع من الخطاب لا يستهدف الأفراد فقط، بل يهاجم قيمة التعاطف ذاتها، ويُراد له أن يُعيد تعريف الضمير كضعف، والغضب الأخلاقي كتهديد.

في زمن الإبادة، لم تعد القضية الفلسطينية فقط ساحة للصراع العسكري والسياسي، بل أصبحت ميدانًا لمعركة أعمق وأخطر، تستهدف الروح الإنسانية، وتجرّم التعاطف مع الضحايا. هذا التجريم، محليًا وعالميًا، يعيد برمجة الضمير الإنساني ليخجل من نفسه، أو ليصمت خوفًا من العقوبة.

حين خرج طلاب في جامعات أميركية مثل هارفارد وكولومبيا يتضامنون مع غزة، مُنعوا من التخرج، وسُحبت منهم عروض العمل، وهاجمهم الإعلام بأقسى العبارات، ووصموا بأنهم “داعمون للإرهاب”. وفي فرنسا، مُنع التظاهر تضامنًا مع غزة، وفرضت الغرامات وأُلقي القبض على متظاهرين يحملون الأعلام الفلسطينية. أما في ألمانيا، فقد أُلغيت فعاليات ثقافية، وطُرد أطباء وفنانون مناهضون للعدوان على غزة من المؤسسات العامة لمجرد تعبيرهم عن تعاطفهم مع الشعب الفلسطيني.

إن تجريم التعاطف لا يُخيف فقط من يرفع صوته، بل يصيب حتى من يحتفظ بمشاعره لنفسه، فيُعيد تشكيل المجال النفسي للبشر، فيصبح الفرد خائفًا من دموعه، مترددًا في إبداء حزنه، وعاجزًا أمام معاناة الآخر. وهذا ما يُسمى في علم النفس بـ”القمع العاطفي” (emotional suppression)، وهو عامل رئيسي في تكوين القلق والاكتئاب وغيرها من الاضطرابات العصابية.

وأسوأ من ذلك، أن النفس تبدأ أحيانًا في التكيّف مع هذا القمع عن طريق ما يُعرف بـ”التبلّد العاطفي” (emotional numbing)، حيث يفقد الإنسان القدرة على الإحساس والتفاعل مع الألم الإنساني، ويصبح أكثر عرضة للانفصال عن مشاعره ومجتمعه وواقعه، مما يُفضي إلى العزلة والانطواء، بل وربما التوحش أحيانًا.

أما بالنسبة لصغارنا الذين يقتدون بنا، فإن ملاحظتهم للبالغين وهم يُعاقبون على تعاطفهم تُنتج لديهم تشوشًا أخلاقيًا وقلقًا وجوديًا، حيث يُعاد تعريف “الخير” على أنه خطر، و”التعاطف” على أنه انحراف. وهذا يُعمّق من اغترابهم النفسي ويُؤسس لمجتمع ينظر إلى القيم كترفٍ لا مكان له في عالم الخوف والرقابة.

إن هذا الوضع يتطلب منا كمهنـيين في الصحة النفسية، وكأكاديميين ومثقفين، أن نُعيد الاعتبار إلى مركزية الضمير، وأن نُعرّي أدوات القمع الناعمة التي تُوظّف القانون والإعلام والتعليم لقتل التعاطف في المهد. علينا أن نُوسّع المجال العيادي والخاص والعام للحديث عن الخوف، وأن نتواصل مع آخرين يتشاركون معنا المشاعر والتجارب؛ فـالخوف يتبدّد إن احتمينا في جماعات.

في زمن يُمنع فيه الإنسان من البكاء على طفلٍ يُنتشل من تحت الركام، وآخر ينجو من القصف ليموت جوعًا، علينا أن نرفع صوتنا لا دفاعًا عن فلسطين فقط، بل دفاعًا عن إنسانيتنا المهددة. إن الجريمة واضحة، وما الصمت إلا شهادة زور ضد ضمائرنا.

الإبادة في غزة لم تعد تخص الغزيين أو الفلسطينيين وحدهم، بل هي جريمة سيكون لها بُعدها الإنساني الكوني، ولسوف تُهدد العقد الاجتماعي بين الناس وتَمسّ بجوهر الإنسان لو انتصر الصمت والتواطؤ على ضمائرنا.

شاهد أيضاً

الاحتلال يستولي على 16 منزلا ويعتقل 10 مواطنين في عنزة جنوب جنين

الاحتلال يستولي على 16 منزلا ويعتقل 10 مواطنين في عنزة جنوب جنين

شفا – واصلت قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الجمعة، اقتحامها لقرية عنزة جنوب جنين لليوم الثاني …