3:01 مساءً / 13 يونيو، 2025
آخر الاخبار

لذة التخلّي والتخطي ، حين يصبح الفراغ أرحم من الألم ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

لذة التخلّي والتخطي ، حين يصبح الفراغ أرحم من الألم ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

لذة التخلّي والتخطي: حين يصبح الفراغ أرحم من الألم ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

في حياتنا، لا بدّ أن نمرّ بلحظات نشبه فيها الشجرة التي تخلّت عن أوراقها في خريف موجع، لا لتفنى، بل لتفسح المجال لربيع قادم يزهر من جديد. ومهما بدا التخلي مؤلمًا، يبقى في أعماقه درساً عميقاً، ولذةً لا يدركها إلا من ذاق مرّ الفقد، وصبر على مرارة التعلّق.

تخيل أن تخلع سناً ظلّ يؤلمك طويلاً، ينهشك في كل لقمة، ويقضّ مضجعك كلّ ليلة، ثمّ تُنزعه أخيراً، فتشعر بفراغ غريب في فمك، كأنّ جزءاً من ذاتك فُقد. ولكنك حين تسترجع الألم الذي كان يسببه لك، تُدرك فجأة أنّ هذا الفراغ، بكل صمته وبرودته، أرحم من كلّ صراخ ذلك الوجع. هنا بالضبط، يولد الشعور العذب: لذّة التخطي والتخلّي.

التخلي ليس هروباً، بل شجاعة. إنه أن تقول: “لقد تعبت.. لكنني أستحقّ السلام.” والتخطي، هو أن تعبر جسراً فوق نهر الذكريات دون أن تغرق فيه، هو أن ترى المكان الذي كان يوماً مليئاً بالضحك والحب، ثم تمضي دون أن ترتجف قدماك. هو لحظة ترى فيها من كنت تضعه في أعلى عليين من قلبك، وقد بات شخصاً عادياً، لا يحرّك فيك موجاً، ولا يوقظ فيك نسمة.

تتألّم حين تبدأ الرحلة، لأنك كنت تظن أن العلاقة أبدية، وأن الوجود دونه مستحيل. تتشبث، تتوسل للذكرى أن تبقى، تحاول أن تزرع الورد في أرض قاحلة. ثمّ تدرك فجأة أنّ الله، في حكمته، ما أخرج هذا الشخص من حياتك إلا لأنك تستحق ما هو أنقى، وأصدق، وأكثر اتساقاً مع روحك.

وفي لحظةٍ ما، بعد ليالٍ من البكاء الصامت، وسجدات تنهش الأرض رجاءً، تشعر بأنك بدأت تستردّ نفسك.. وكأنك تعثر على خريطتك بعد أن تهت طويلاً. تستعيد صورتك في مرآتك دون شوائب. تعود تحبّ نفسك. وتكتشف أن فيك من الجمال ما لا يحتاج لتصفيق الآخرين، ولا لبقاء من لا يقدّره.

إنها لذّة لا توصف، حين تصبح الذكرى مجرد حكاية قديمة، تُروى بلا ألم. حين يُذكر اسمه في مجلس، فترفع حاجبيك دون أن يتحرّك شيء في صدرك. حين تمرّ الأماكن التي جمعتكم، فتمضي دون أن يعتصر قلبك الشوق.

هذه اللحظة، هي قمّة التعافي. وهي الجائزة التي يمنحها الله لمن تحمّل، وصبر، واحتسب. لذّة التخطي ليست في النسيان، بل في القدرة على التذكّر دون أن تنكسر. ولذّة التخلّي ليست في الجفاء، بل في النُضج، حين تختار نفسك دون أن تكره الآخرين.

ولأننا جميعاً نمرّ بهذه المرحلة، يوماً ما، في منعطف ما من الحياة، يجب أن نشكر الألم، كما نشكر الفرح. فلو لم يُؤلمنا الفقد، ما عرفنا قيمة الاكتفاء. ولو لم نُخذل، ما عرفنا أنفسنا. فالألم مُعلّم صامت، يحمل في طياته دروساً لا تُدرك إلا حين يهدأ الصخب، وتصفو الروح.

فاشكر الوجع.. لأنه بوّابتك إلى النضج، وابتسم لأنك اخترت السلام على العاصفة، وتذكّر دائماً: الفراغ أرحم من الألم، والسلام أصدق من الوهم، والتخلي أحياناً هو الطريق الوحيد إلى ذاتك الحقيقيّة.

شاهد أيضاً

مقاومة الجدار والاستيطان: الاحتلال يمعن في فرض منظومة العقوبة الجماعية بحق المواطنين

شفا – – قالت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي أحكمت إغلاق معظم …