4:45 مساءً / 13 يونيو، 2025
آخر الاخبار

سلالة من طين ، غزة الباكية، للكاتبة قمر عبد الرحمن ، بقلم : رائد عساف

سلالة من طين ، غزة الباكية، للكاتبة قمر عبد الرحمن ، بقلم : رائد عساف

“سلالة من طين : غزة الباكية” للكاتبة قمر عبد الرحمن ، رواية كتبتها الأنثى بحبر الأرض ودمع الصمت ، بقلم : رائد عساف


منذ السطر الأول في رواية “سلالة من طين: غزة الباكية” للكاتبة قمر عبد الرحمن، ندرك أننا لا نقف على أعتاب نصٍّ تقليديّ، بل ندلف إلى حكاية تُكتَب لا بالحروف فقط، بل بالأنين، بالحشرجات، بالمواجع التي لا تُقال، بل تُتوارى في عيون النساء، وخلف ستائر البيوت الموصدة، وفي الأزقة الضيّقة التي تشهد على ألم مزدوج: وجع الاحتلال ووجع المجتمع.

هذه الرواية ليست سيرة امرأة، بل سيرة وطنٍ يتشظّى في قلب أنثى، وسيرة أنثى تتفتّت تحت وطأة وطنٍ يمتهن الصمت والصبر في آنٍ واحد. الرواية سردت غزة، لا كجغرافيا فقط، بل ككائن حيّ ينبض بالجرح والحنين، كأنثى تمشي في حقول الموت وعيونها معلقة على فتحة ضوء، على حلمٍ مستحيل.

“مريم”… رمز الصرخة المغتالة

في قلب الحكاية تقف “مريم”، لا كشخصية روائية وحسب، بل كرمزٍ متعدّد الأبعاد؛ مريم هي كل فتاة فلسطينية وُلدت في أرضٍ لا تعرف الرحمة، مريم هي كل امرأة نُزعت منها حقوقها تحت شعار العيب والستر والعرف. مريم لم تمت لأنها أرادت الموت، بل لأنها لم تجد للحياة باباً. كانت صرختها الأخيرة احتجاجاً ضد الجدران العالية، لا ضد القدر. لقد جعلت الكاتبة من مريم شاهداً على حجم الخراب الذي يفتك بالروح الأنثوية في بيئات القهر المزدوج: الاحتلال الخارجي والتسلّط الذكوري الداخلي.

موت مريم كان قاسياً، لكنه كان موتاً مدوّياً لا يُنسى، تمامًا كما تموت الأوطان بصمت، لكنها لا تُنسى. كانت الكاتبة ذكية حين جعلت من الانتحار ذروة التراجيديا، ومن لحظة الموت لحظة انكشاف الحقيقة التي كانت تختمر في صمت الحكاية. لقد حمّلت مريم عبء الوطن والمرأة معاً، ثم تركتها تسقط، لتُسقط معها كل الأقنعة.

“الأم”… ذاكرة الأرض وملح الحكاية

في الرواية أيضاً، نجد الأم، تلك المرأة التي تجسّد في كل مشهد معنى الصبر المتكئ على الله، والحكمة المنسوجة من خيوط الحنين. ليست الأم هنا مجرد شخصية عابرة، بل هي الأرض، هي غزة نفسها، هي الشجرة التي لا تموت رغم القصف، رغم الجفاف، رغم الاجتثاث. تمشي الأم بين جراح أبنائها وتغسلهم بدمعها، تصمت حين يجب الصراخ، وتهمس حين يكون الكلام حراماً، ولكنّها تظل ثابتة، كجذع زيتون لا يلين. هذه الأم تُمثّل الجذر، الأصل، الإيمان، والأمل الوحيد الذي لا ينكسر.

“آدم”… الطفولة المستلبة والرجولة المبكرة

آدم، الطفل الذي ينضج قبل الأوان، يرمق الحياة من زاوية لا تليق بعمره، فيحمل أعباء البيت، ويحتوي الأم، ويحاول أن يكون الصخرة في زمن الانهيارات. يمثل آدم الوجه الآخر لمأساة الطفولة الفلسطينية: طفل لا يُسمح له بالبكاء، ولا باللعب، ولا حتى بالسؤال. يكبر على أصوات القصف، وتحت ضوء الشموع، ويرث من أبٍ غائب وأخٍ أسير كلّ ما لا يليق بالطفولة. في عينيه، نقرأ كل خيبات الجيل الصاعد في غزة، جيلٌ يتعلم الصمت باكراً، ويحمل مفاتيح البيوت المغلقة وهو بعد لم يُكمل الأحلام.

“نضال”… الحرية المؤجلة خلف القضبان

أما نضال، الشاب الأسير، فهو شاهد آخر على اغتيال الحلم الفلسطيني. لا يمثّل فقط السجين في الزنزانة، بل هو تجسيد حيّ لكل فلسطيني حُكم عليه أن يعيش نصف حياة، وأن يُصادر منه الزمن والأمل والحب. نضال هو حلم مؤجل، رجولة مبتورة، وزمنٌ معلّق لا يعرف النهاية. في رسائله، في انتظار والدته، في صمته، نقرأ وجعاً أكبر من حدود الزنزانة، هو وجع الأسر الكبير الذي تعيشه غزة كلها، لا كمدينة، بل ككائن مسجون في ذاكرة الألم.

السرد واللغة… جراح تُصاغ كأغانٍ باكية

ما يميز رواية “سلالة من طين” هو أسلوبها السردي العميق، النابض بالإحساس، والبعيد كل البعد عن التصنع أو التكلف. اللغة هنا ليست زينة بل لحم حيّ. تختلط فيها الصور الشعرية بعذوبة، مع واقعية قاسية. تجيد الكاتبة اللعب بين المشاعر المتضادة، بين الأمل والانكسار، بين الحنان والقسوة، بين الحياة والموت. السرد لا يركض، بل يتهادى ببطء، كأنّه يحمل على ظهره عبء الحكاية كلها. الجمل قصيرة أحياناً، كأنها تنهيدة، وأحياناً طويلة كأنها أنين ممتدّ.

الوصف في الرواية لا يكتفي بالمكان، بل يغوص في الرائحة، في الملمس، في ارتجاف الأجساد. البحر ليس مجرّد مشهد، بل ذاكرة. الجدران ليست حجارة، بل شهود. حتى الغرف لها أنفاسها. المكان هنا يتكلّم، كما تتكلّم الشخصيات، وربما أكثر.

الرؤية والرسالة… ما بين الجهر والهمس

الرواية تحمل رؤية واضحة وشجاعة؛ الكاتبة لا تخاف من المواجهة، ولا تكتفي بوصف الاحتلال كمصدرٍ وحيد للوجع، بل تُشير صراحة إلى أن المجتمع ذاته قد يتحوّل إلى سجن أكبر، وأن القهر الأسري قد يكون أبشع من قصف الطائرات. الرسالة هنا ليست ضد عدو خارجي فقط، بل هي ضد كل عدو يكمّم الأفواه، ضد كل سلطة تسرق صوت المرأة، ضد كل عرفٍ يئد البراءة.

“سلالة من طين”… بين اللعنة والكرامة

العنوان بحدّ ذاته يحمل دلالة شعرية وإيحائية بالغة؛ “سلالة من طين” تُشير إلى أصل الإنسان، إلى هشاشته، إلى انكساراته، إلى قابليته للتحطّم، ولكنه أيضاً أصل الخصوبة، وأصل التكوين. أما “غزة الباكية”، فهي ليست وصفاً لحالٍ عابر، بل توصيف دائم، لمدينة تعيش البكاء اليوميّ، وتخبئ دموعها تحت قباب البيوت، وتستمر في الحياة، رغم كل شيء.

رواية “سلالة من طين: غزة الباكية” ليست مجرّد عمل أدبي، بل صرخة مدوّية في وجه الوجع الإنساني. رواية تخرج من رحم الجمر، وتذهب إلى القارئ كحقيقة مؤلمة وجميلة في آنٍ معاً . هي عمل يستحق أن يُقرأ مرتين: مرة بعين العقل، ومرة بعين القلب.

قمر عبد الرحمن، في هذه الرواية، لم تكن فقط كاتبة، بل كانت مرآةً نقيةً لما يحدث في داخل البيوت المغلقة، وفي قلوب النساء، وفي ذاكرة غزة. كتبت كما تكتب الأمهات دعاءهن، بحرقة، بدمع، برجاء. روايتها ستظلّ علامةً فارقةً في الأدب الفلسطيني النسوي المعاصر، وشاهدة على أن الكتابة، حين تكون صادقة، قادرة على هزّ الجدران وإن لم تُسقطها.

  • – رائد عساف – الأردن .

شاهد أيضاً

مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة، فو تسونغ

مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة : على إسرائيل الوقف الفوري لجميع العمليات العسكرية في قطاع غزة

شفا – أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا في دورتها الاستثنائية الطارئة في 12 يونيو/حزيران، …