
في زمن التعايش مع الذل ، بقلم : الصحفي سامح الجدي
في لحظة صمت، وسط ركام المشهد الفلسطيني والعربي، يتردد هذا السؤال في أعماقي: هل بقي في قواميسنا معنى للاستسلام والهزيمة لم نبلغه بعد؟ فحين تنهار القيم، وتصمت الإرادات، وتُقايض الحقوق بالفتات، تُصبح الهزيمة حالة لا حرب بعدها، والاستسلام قرارًا جماعيًّا غير معلن، لكنه حاضر في كل التفاصيل.
ما الذي تبقى من مشروعنا الوطني الفلسطيني؟ من حلم التحرير والعودة؟ من الكرامة العربية التي صدّعوا رؤوسنا بها ذات زمن؟ كل شيء يبدو وكأنه يُدار بعقلية “الحد الأدنى”، لا في السياسة فقط، بل في الوعي، والموقف، وحتى في الغضب. لم نعد نرى في المشهد إلا التكيف مع الذل، والتعايش مع الاحتلال، والتسليم بكل أشكال الإهانة والتفريط.
أي استسلام هذا الذي يجعلنا نرى أطفال غزة يُذبحون تحت الركام ونكتفي بالإدانة، وربما لا نجرؤ عليها؟ أي هزيمة تجعل القمم تُعقد فقط لإعادة الإعمار، لا لوقف العدوان أو محاسبة المجرمين؟ صار الحق يُقاس بميزان القوة، لا بعدالة القضية، وصارت دماء الأبرياء تُغسل بكلمات جوفاء عن “ضبط النفس” و”التهدئة”.
بل أكثر من ذلك، هناك من باتوا يرون في الاحتلال “شريكًا للسلام”، ويتسابقون للجلوس معه على الطاولة ذاتها، وكأننا من اعتدى، وكأن شهداءنا كانوا مجرد أرقام خطأ في دفتر الخسائر. كيف وصلنا إلى هذا القاع؟ ومن ذا الذي قادنا إليه؟ ومن ذا الذي سيوقف هذا الانحدار؟
لا أريد أن أُحمِّل مسؤولية ما نحن فيه لفصيل دون آخر، ولا لنظام دون غيره، فالجميع – بدرجات متفاوتة – شاركوا في هذه المأساة، بالصمت تارة، وبالصفقات تارة أخرى، وبالانشغال في حروب جانبية لا تخدم إلا من يحتلنا ويقمعنا ويمزق وحدتنا.
إن ما نحتاجه ليس مزيدًا من الكلام، بل لحظة صدق مع الذات، لحظة نعي فيها أننا فقدنا البوصلة، وأن العودة إليها تتطلب ثمنًا، لا أقلّه التخلص من عقلية التكيف مع الاستعمار والعيش في كنفه، وتحرير الإرادة الوطنية من كل القيود التي كبّلتها. فما ضاعت الشعوب إلا حين صدّقت أن الهزيمة قدر، وأن الذل سياسة، وأن “الواقعية” تقتضي التنازل عن كل شيء.
لقد دخلنا زمنًا غريبًا؛ زمنًا يُطلب فيه من الضحية أن تتعايش مع جلادها، ومن المقهور أن يتأقلم مع قهره، ومن المحتل أن يُعامل كشريك. إنه زمن التعايش مع الذل، لا لأننا نريده، بل لأننا لم نعد نقاومه. غير أن من يرضى بالهوان لا يصنع مستقبلًا، ومن يطبع مع الضعف لا يبني وطنًا. وإذا لم نصرخ في وجه هذا الواقع، ونتمرد على صيغ “الواقعية” التي تبرر الاستسلام، فإننا لا نعيش فقط في زمن الذل، بل نصنع له استمرارًا وشرعية.