
القدس في مفترق طرق ، بين فكّي الهوية الفلسطينية والتهويد، بقلم : سالي أبو عياش
منذ احتلال شطرها الشرقي عام 1967، لم تتوقف “إسرائيل” عن التعامل مع القدس كأولوية ضمن مشروعها الاستعماري، مدفوعة بعقيدة توراتية وسياسية تهدف إلى إعادة صياغة هوية المدينة بشكل كامل، ديمغرافياً ومعمارياً وروحيا.
مع مرور السنين، تراكم في المدينة واقع ثقيل، صنعته الاقتحامات الأمنية والدينية، وسياسات الهدم والتضييق، ومحاولات الأسرلة، حتى وجدت القدس نفسها اليوم في مفترق طرق حاسم، بين تهويد متسارع ومقاومة يومية متجذّرة، ففي السنوات الأخيرة، تصاعدت وتيرة الاقتحامات التي يقودها المستوطنون وبعض السياسيين، وعلى رأسهم وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، الذي جعل من الأقصى ساحة عرض لسياساته الاستفزازية.
فعلى سبيل المثال تكون اقتحاماته للمسجد الأقصى، برفقة مستوطنين متطرفين، لتشكّل مشهداً مهيناً لسيادة الفلسطينيين وللقدسية الإسلامية للمكان، وتأتي هذه الاعمال ضمن سلسلة سياسات ممنهجة تُنفّذ غالباً خلال الأعياد اليهودية أو في توقيتات رمزية، مثل شهر رمضان، بهدف تكريس مشهد وجود إسرائيلي دائم في باحات الأقصى، في الواقع لا يبدو هذا الوجود العابر مجرد استعراض، بل هو جزء من خطة طويلة المدى تستهدف التقسيم الزماني والمكاني للحرم، كما حدث في الحرم الإبراهيمي بالخليل بعد مجزرة 1994، فحينها فُرضت قيود على الصلاة الإسلامية، وقُسّم المكان بين الإسرائيليين والمسلمين إلى أن باتت السيادة الإسرائيلية عليه أمراً واقعاً وتتحكم حتى في رفع الاذان الإسلامي أحيانا.
هذا النموذج اليوم يشكّل تهديداً واضحاً للمسجد الأقصى وربما سيكون السيناريو القادم الذي يهدد قدسية المسجد الأقصى، لتفقد المدينة جوهرها الديني ومكانتها في الوعي الإسلامي والعربي.
في موازاة هذه الاعتداءات، تواصل السلطات الإسرائيلية سياسة الهدم المنهجية للمنازل والمنشآت الفلسطينية بحجة “البناء غير المرخّص”، رغم أنّ الحصول على ترخيص في القدس يكاد يكون مستحيلاً للفلسطينيين. وبحسب الوقائع السياسية فإنّ النسبة الكبرى من طلبات تراخيص البناء تُرفض، أو يتمّ هدمها في ما بعد، في حين تُمنح المستوطنات التسهيلات اللازمة لتتوسع على حساب الأرض والوجود الفلسطيني. هذا النهج ليس عشوائيا، بل جزءاً من هندسة سكانية ديمغرافية هدفها تقليل نسبة العرب في المدينة وزيادة الطابع اليهودي، خاصة في أحياء مثل سلوان والعيسوية وجبل المكبر والشيخ جراح، حيث لا يمر يوم دون أن تُهدد عائلة بالإخلاء أو الهدم أو الغرامة.
إنّ الخطر لا يتوقف عند الحجارة والمباني، فالعقول أيضاً في مرمى الاستهداف. تعمل “إسرائيل” بشكل حثيث على فرض المناهج الإسرائيلية في مدارس القدس، بحذف الرواية الفلسطينية وترويج السردية الصهيونية، مستخدمة أدوات الترهيب المالي والضغوط القانونية ضد المدارس التي ترفض الانصياع. الهدف من ذلك هو فصل الأجيال الجديدة عن هويتها الوطنية، وخلق جيل مشوش يجهل تاريخه ويقبل تدريجياً بواقع الاحتلال. ورغم هذه المحاولات، لا تزال بعض المدارس تُصرّ على تدريس المنهاج الفلسطيني أو تعويض النقص من خلال نشاطات مجتمعية، في معركة طويلة النفس من أجل الحفاظ على الذاكرة.
على الصعيد الاقتصادي، يُعاني المقدسيون من تضييق مستمر، حيث تُفرض عليهم ضرائب مرتفعة، أبرزها الأرنونا*، التي تخنق الأنشطة التجارية وتدفع بالكثير من المحال للإغلاق. في المقابل، تنشئ “إسرائيل” مجمعات تجارية ضخمة تستقطب الفلسطينيين لتفريغ الأسواق القديمة، وتُروّج لسياحة إسرائيلية موجّهة تُقصي الفلسطينيين وتُعيد تشكيل الوعي العالمي حول المدينة. حتى المسجد الأقصى، الذي يُفترض أن يكون محوراً للسيادة الإسلامية، باتت السيادة عليه موضع تساؤل، في ظل تواطؤ الشرطة والمحاكم مع المستوطنين، وإصرار سلطات الاحتلال على فرض وقائع جديدة.
كل هذه الممارسات لا تحدث في فراغ، فهي تأتي في ظل تحولات إقليمية ودولية خطيرة، لقد أدى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس عام 2018 إلى منح “إسرائيل” دعماً سياسياً وأسّس لمرحلة جديدة من التطبيع العربي، الذي خفّف الضغط عن الاحتلال وفتح أمامه أبواب الدول العربية دون ثمن سياسي حقيقي. ومع توقيع اتفاقيات أبراهام، وتراجع مركزية القضية الفلسطينية في الخطاب الرسمي العربي، وجد الاحتلال نفسه حر اليدين في القدس، وتحولت المدينة إلى مختبر لقياس حدود رد الفعل العربي والإسلامي، والذي غالباً ما كان ضعيفاً أو غائبا.
القدس صامدة.. القدس مقاوِمة
لكن رغم ذلك، تظل القدس شوكة في حلق مشاريع التطبيع، لأنّ أهلها لا ينسون، ولا يغفرون، ولا يرحبون بسلام يُبنى على أنقاضهم.
أما بعد عدوان 7 أكتوبر وما تلاه من أحداثٍ دامية في قطاع غزة بصورة خاصة وحصارٍ وتوتراتٍ أمنية وأحداث سياسية في فلسطين برمتها، تأثرت القدس بشكل واضح بهذه الاحداث فقد زاد الاحتلال من تشديد الحصار، وتصاعدت الاقتحامات والهجمات على الأحياء الفلسطينية، والأماكن الدينية كالمسجد الأقصى وباحاته والأسواق ما زاد من الشعور بالاختناق والضغوط التي تكبل سكانها، وأكد أنّ المدينة ليست فقط ساحة نزاع ديمغرافي، بل أيضاً ساحة صراع سياسي وأمني متفجّر.
هذه الأوضاع السياسية في القدس تضعنا أمام سيناريوهات متعددة تتمثّل في:
- التهويد الزاحف وتثبيت الوقائع على الأرض في ظل هيمنة اليمين الإسرائيلي المتطرف على القرار السياسي، ويبدو هذا السيناريو هو الأقرب للواقع الحالي إذ تستمر “إسرائيل” بتطبيق سياسة التهويد الزاحف، التي لا تعتمد على الضجيج الإعلامي بقدر ما تعتمد على الزمن كأداة للاحتلال. فالقدس تُفكك تدريجياً من هويتها الفلسطينية، وتُعاد صياغتها كـعاصمة موحدة لدولة تعيش على نفي الآخر.
وتتمثّل هذه السياسة في مصادرة الأراضي، وتوسيع المستوطنات، وربطها بشبكات مواصلات تفصل الفلسطينيين وتُدمج المستوطنين ضمن مستوطنة القدس الكبرى. حيث يتمّ هدم البيوت بحجج قانونية شكلية، ويُحرم الفلسطيني من حقّ البناء أو الترميم، ويُخنق اقتصادياً ليُدفع نحو الرحيل الطوعي هذا السيناريو يجعل من التهويد أمراً طبيعياً متدرجا، وغير قابل للعكس، إذا لم يواجه بقوة حقيقية، من الداخل والخارج.
- انفجار الغضب وانتفاضة مقدسية جديدة: القدس تعيش حالة احتقان مزمنة فالاحتلال لا يترك مساحات للعيش، ولا يسمح بالاحتفال، ولا يتوقف عن العبث بالمقدسات. ففي لحظة ما، يمكن أن تنفجر المدينة، كما فعلت في هبة باب العامود، أو انتفاضة الشيخ جراح، أو أيام الاقتحامات المتتالية للأقصى. هذه الانتفاضات لا تُقرَّر من فصائل ولا تُقاد من أحزاب، بل تولد من رحم الألم والمقاومة اليومية.
قد يحمل هذا السيناريو انتكاسات وخسائر، لكنّه يعيد للقدس نبضها المقاوم، ويجبر الاحتلال على التراجع أحيانا، كما حدث حين اضطر لإزالة الحواجز من باب العامود تحت ضغط الشارع. تضع هذه الانتفاضات القضية الفلسطينية من جديد على طاولة العالم، وتُحرج أنظمة التطبيع، وتكسر وهم القدس الهادئة.
الحراك الدولي والتضامن العابر للحدود في زمن الإعلام الرقمي ووسائطه، لم يعد بإمكان الاحتلال أن يخفي جرائمه كما كان يفعل في الماضي. باتت مشاهد هدم البيوت، وضرب النساء، وتدنيس الأقصى، تنتقل إلى العالم بلحظتها. تنمو حركات المقاطعة، وتتوسع رقعة الوعي الشعبي عالمياً، ويزداد حضور القدس في الخطاب الحقوقي.
هذا السيناريو لا يُعوَّل عليه وحده، لكنّه يُعتبر عنصر ضغط مهم، خاصة إذا ترافق مع تحركات قانونية، كرفع قضايا في المحاكم الدولية، أو قرارات أممية تُدين سياسات الاحتلال.
هنا، تُصبح القدس صوتاً عالمياً للمظلومين، وتُكسر سردية أورشليم الموحدة التي يروّج لها الاحتلال.
الصمود اليومي كاستراتيجية مقاومة هو السيناريو الأصدق، والأكثر استمرارية فهو لا يُبنى على قرارات كبرى، بل على خيارات فردية يومية. حين تُقرر أم مقدسية أن تُبقي أطفالها في مدرستهم رغم المضايقات، حين يفتح التاجر متجره كل صباح رغم الكساد والضريبة الهائلة عليه، حين يتمسك شاب مقدسي بمفاتيح بيته المهدد بالهدم… فهذا هو الصمود.
الصمود لا يوقف التهويد بالكامل، لكنّه يضعف أثره، ويؤكد أنّ المدينة لا تُفرغ بسهولة. يخلق هذا السيناريو ما يُعرف بـالردع الشعبي، إذ يدرك الاحتلال أنّ كل إجراء سيلقى مقاومة، ولو بسيطة وهنا تكمن قوة هذا الاحتمال: إنّه لا يحتاج إلى قرار دولي، ولا إلى اتفاق، بل إلى إرادة لا تُكسر.
رغم كل التهديدات والمتغيرات، تبقى القدس مدينة لا تستسلم، وأهلها الذين يقاومون بصمت في بيوتهم ومدارسهم وأسواقهم، لا يرفعون الراية البيضاء. فالمعركة ليست فقط على المكان، بل على المعنى، على الذاكرة، والانتماء، والحقّ في أن تكون المدينة كما كانت دوما: عاصمة للكرامة، ومرآة للوجع الفلسطيني، وراية للأمل.