
بين النكبة والضم ، أرض تتقلص وهوية تمحى، بقلم : سالي ابو عياش
على هذه الأرض ما يستحق الحياة… لكن هل سيبقى شيء بعد اشتداد الظلم ومحاولات الضم؟
في تصعيد خطير ضمن مشروع الضم الإسرائيلي المتواصل، كُشف في أيار/مايو 2025 عن مسودة قانون جديدة تتيح للمستوطنين امتلاك أراضٍ داخل الضفة الغربية، بما في ذلك ولأول مرة المناطق المصنفة (أ) التي تُفترض خضوعها لسيطرة السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو. ويمثّل هذا التحرك تحولاً نوعياً في سياسات الضم التدريجي، إذ أصبحت أدوات القانون تُسخّر لتفكيك ما تبقى من مظاهر السيادة الفلسطينية حتى وإن كانت رمزية.
اليوم لم تعد الأرض وحدها الهدف، بل باتت السياسات الإسرائيلية تستهدف البنية الديموغرافية الفلسطينية، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، إضافة إلى إمكانيات الحياة في بيئة متماسكة ومستقرة. ومن خلال تحويل المستوطن إلى مالك شرعي داخل المناطق الفلسطينية، تُفعّل إسرائيل منظومة متكاملة من التشريع والقوة لفرض واقع استيطاني دائم، يُعيد تشكيل الجغرافيا والهوية معاً.
يعد الاستيطان حجر الزاوية في استراتيجية السيطرة الديمغرافية التي انتهجتها إسرائيل منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967. فمن خلال بناء مستوطنات تتوسع تدريجياً، لا سيما في المواقع ذات الأهمية الجغرافية والأمنية، تسعى إسرائيل إلى إعادة تشكيل الخريطة المكانية للضفة الغربية، بما يُضعف إمكانيات تشكّل كيان وطني فلسطيني متصل وقابل للحياة. لا يقتصر هدف هذا التمدد الاستيطاني على توسيع نطاق الوجود الصهيوني فحسب، بل يتعدّاه إلى تفكيك التواصل الجغرافي بين المناطق الفلسطينية، وعزل المراكز الحضرية عن محيطها الريفي، بما يُعطل الركائز الأساسية لأي مشروع سيادي فلسطيني مستقبلي.
منذ عام 2024 شهدت الضفة الغربية تسارعاً غير مسبوق في وتيرة التوسع الاستيطاني، مع مصادقة سلطات الاحتلال على مخططات هيكلية لإقامة أكثر من 13 ألف وحدة استعمارية جديدة، استحوذت بموجبها على نحو 11,888 دونماً من الأراضي الفلسطينية. هذه المشاريع تأتي ضمن خطة إسرائيلية متكاملة لإعادة تشكيل الواقع الميداني بما يخدم رؤية إسرائيل الكبرى، ويجعل من المستحيل التراجع عن الوقائع المفروضة، حتى في حال حدوث تحوّل سياسي مستقبلي.
وتُظهِر الإحصائيات الحديثة عمق التحوّل الديموغرافي الجاري، حيث بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، حوالي 770,420 مستوطناً حتى نهاية عام 2023، بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. وتتركز النسبة الأكبر منهم في محافظة القدس، التي تضم أكثر من 336,000 مستوطن، أي ما يعادل 43.7% من مجمل المستوطنين. وتُجسّد هذه الأرقام فداحة الخلل الديموغرافي الذي تُنتجه السياسات الاستيطانية، حيث يوجد اليوم ما يقارب 23.4 مستوطناً لكل 100 فلسطيني في الضفة، وتبلغ النسبة في القدس وحدها نحو 67.6 مستوطناً لكل 100 فلسطيني.
هذا التصاعد العددي لا يُقرأ بمعزل عن البنية السياسية للاستيطان، بل يُعدّ أداة أساسية في إحكام السيطرة الإسرائيلية، حيث تتحوّل الكثافة الاستيطانية إلى عنصر ضغط ديموغرافي وواقعي، يُستخدم لتبرير الضم الفعلي والتوسع المستمر، كما يفرض معادلات قسرية على الوجود الفلسطيني في مناطقه الأصلية، ويقوّض مقومات البقاء والصمود.
تتعدّى سياسات الاحتلال حدود الاستيطان إلى أدوات أكثر تعقيداً وشراسة في إعادة تشكيل الجغرافيا الفلسطينية، عبر هدم المنازل ومنع التراخيص البنائية، لا سيما في المناطق المصنّفة (C) وحتى في (B) وفي الآونة الأخيرة بدأ الحديث عن المنطقة (A)، ما يحرم الفلسطينيين من أي توسّع عمراني طبيعي، ويدفعهم إما إلى الهجرة القسرية أو البناء غير المرخّص الذي يُستخدم لاحقاً كذريعة للهدم.
وقد تصاعدت هذه السياسات بشكل حاد بعد عملية طوفان الأقصى، ضمن حملة مركّزة لتفريغ المناطق الحساسة ديموغرافياً، خاصة في القدس والضفة الغربية، وفرض مزيد من الوقائع الاستيطانية غير القابلة للتراجع.
بالتوازي، تعمل إسرائيل على تغيير وتشكيل البنية التحتية في الضفة الغربية، من خلال إغلاق الطرق الواصلة بين المدن والقرى الفلسطينية بالسواتر الترابية والحواجز والبوابات الحديدية، مقابل شقّ طرق استيطانية جديدة مخصصة فقط للمستوطنين، وتعمّق من عزل المدن عن بعضها البعض، وتحوّل الضفة إلى رقع متقطعة محاصرة بالبؤر الاستيطانية.
فقد شهدت الأشهر التي تلت طوفان الأقصى مصادقة الحكومة على إنشاء بؤر استيطانية جديدة، بعضها نُفّذ فعليًا، وبعضها مهدد مثل خلة الضبع في مسافر يطا، التي رغم صدور أوامر بإخلائها كونها منطقة عسكرية مغلقة، استمر المستوطنون بالاستيطان فيها لأكثر من أربعة أيام، وسهل قاعون في الأغوار الذي يشهد نشاطاً استيطانياً متصاعداً، إضافة إلى منطقة المغير شرق رام الله، وهذا النشاط يهدف إلى تعزيز السيطرة على الأراضي الفلسطينية وتفتيت النسيج المجتمعي الفلسطيني.
أما اقتصادياً، فتُستخدم أموال المقاصة المحتجزة كورقة ضغط إضافية، إذ تواصل حكومة الاحتلال قرصنة مئات ملايين الشواقل من عائدات الضرائب الفلسطينية بحجج سياسية، مما يضع السلطة الفلسطينية أمام عجز مالي خانق، ويُضعف البنية الإدارية والخدماتية، ويعمّق تبعية الفلسطينيين للاحتلال في أبسط مقومات حياتهم.
هذه السياسات لا تنفصل عن خطاب سياسي إسرائيلي صريح يتبنّى مشروع الضم الكامل، كما عبّرت عنه وزيرة الاستيطان أوريت ستروك بوضوح، حين صرّحت بأن وزارتها “تعمل بسرعة لتمهيد الطريق لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية”، مؤكدة أن هذه الأرض “هي ملك لشعب إسرائيل وحده”، وأن الفلسطينيين “يمكن أن يبقوا فيها مع حقوق فردية، دون أن تكون لهم حقوق قومية أو سياسية”. هذا التصريح ينسجم مع مواقف وزراء آخرين في حكومة الاحتلال، ويكشف عن أجندة تستهدف تصفية أي حلم بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
كل ما يجري، من هدم ومصادرة، إلى اقتحامات وتهجير، لا علاقة له بما تدّعيه إسرائيل من “مكافحة الإرهاب” كما تروّج عند اقتحامها مدن مثل جنين وطوباس وطولكرم ونابلس، أو حتى عند اقتحام المستوطنين لبيت لحم والخليل ورام الله، بل هو جزء من خطة متكاملة لتفريغ الأرض، ومنع أي إمكانية للتنمية الفلسطينية أو الاستقرار. الهدف الاستراتيجي الواضح هو دفع الفلسطينيين إلى مغادرة أرضهم، إما طوعاً بفعل شدة الضغط والحصار، أو قسراً من خلال خلق حالة من العنف والتصعيد المنظّم، ما يُمهد لسيناريو تهجير قسري محتمل، يعيد للأذهان مشاهد النكبة، ولكن بأساليب “حديثة”، تُنفذ تحت غطاءات قانونية وأمنية.
في ظل هذا الواقع، تطرح نفسها أسئلة ملحّة عن مصير الضفة الغربية والفلسطينيين الذين يعيشون فيها.
هل سيظل جدار الصمت الدولي مرفوعاً على هذه الجرائم والسياسات؟
هل ستستمر إسرائيل في فرض سيطرتها الكاملة من خلال الضم الرسمي، أم أن هناك احتمالات لتحولات سياسية تغير الواقع الميداني؟ وإذا حدث الضم فعلاً، فما مصير الملايين من الفلسطينيين الذين سيجدون أنفسهم فجأة تحت حكم إسرائيل، بدون حقوق سياسية أو قومية، وحياتهم مهددة بالتقليل من شأن وجودهم وهويتهم؟
هذه الأسئلة التي لا تزال بلا إجابات واضحة تخلق حالة من الترقب والتوتر، تعكس مدى هشاشة الوضع وتعمق مأزق الفلسطينيين في الضفة، الذين يعيشون بين تهديد الاستيطان والتطهير، وبين غياب أفق سياسي واضح يُنقذ ما تبقى من أحلامهم في الحرية والكرامة. في هذه اللحظة المفصلية، يظل مستقبل الضفة الغربية مفتوحًا على كل الاحتمالات، من استمرار المعاناة والتفكك إلى انفجار شعبي أو إقليمي قد يعيد رسم ملامح الصراع ويغير قواعد اللعبة كلها.