
إعادة بناء الاقتصاد الفلسطيني من خلال إصلاح التعليم والتدريب المهني: خارطة طريق وطنية شاملة ، بقلم : د. عماد سالم
حين تصبح الأزمات فرصة للتحول
تعيش فلسطين اليوم إحدى أصعب لحظات تاريخها الحديث، حيث تتقاطع الأزمات السياسية والاقتصادية والإنسانية في مشهد معقد، تفاقم بشكل غير مسبوق منذ أكتوبر 2023 بفعل الحرب والدمار في قطاع غزة، وتراجع النشاط الاقتصادي في الضفة الغربية. في هذا السياق، لم يعد إصلاح التعليم والتدريب المهني خيارًا هامشيًا، بل أصبح ضرورة وطنية عاجلة من أجل إنقاذ الاقتصاد، وبناء صمود مجتمعي وتنموي حقيقي.
أولاً: واقع اقتصادي مأزوم – أرقام تنذر بالخطر
- البطالة – انفجار اجتماعي وشيك
⦁ قطاع غزة: ارتفعت معدلات البطالة إلى نحو80% في عام 2024، مقارنة بـ53% في العام السابق، نتيجة التدمير الشامل للبنية التحتية وتوقف عجلة الاقتصاد.
⦁ الضفة الغربية: بلغت البطالة 35%، مقارنة بـ18% سابقًا، بسبب تقييد الحركة وانخفاض الإنتاج وتراجع التوظيف في القطاعين العام والخاص.
⦁ الشباب والنساء: أكثر الفئات تضررًا، إذ تصل البطالة بين الشباب إلى أكثر من 55%، وبين النساء إلى نحو 65%. - ضعف في القطاعات الإنتاجية
⦁ استمرار تراجع مساهمة الزراعة والصناعة في الناتج المحلي.
⦁ اتساع الفجوة بين مخرجات التعليم وسوق العمل، مع تخريج آلاف من الجامعات سنويًا دون امتلاك المهارات اللازمة للتشغيل أو الريادة.
⦁ زيادة الاعتماد على المساعدات الخارجية والاستهلاك بدلاً من الإنتاج.
ثانياً: إصلاح التعليم المهني كرافعة استراتيجية للتعافي الاقتصادي
لماذا التعليم المهني؟
⦁ توليد فرص عمل فورية ومستدامة عبر برامج قصيرة الأجل موجهة نحو السوق.
⦁ إعادة تأهيل اليد العاملة المتعطلة، خاصة في غزة والمناطق المتضررة، لإعادة دمجها في الاقتصاد.
⦁ تمكين الشباب والفئات المهمشة من دخول سوق العمل دون المرور بالمسار الأكاديمي التقليدي.
⦁ توطين الاقتصاد من خلال دعم ريادة الأعمال، والمشاريع الصغيرة، والمهارات الرقمية والمستقبلية.
ثالثاً: خارطة طريق وطنية لإصلاح التعليم والتدريب المهني
- سياسات جديدة تلبي التحدي
⦁ صياغة استراتيجية وطنية للتعليم والتدريب المهني ترتكز على الاستجابة السريعة للتغيرات الاقتصادية والمجتمعية.
⦁ إنشاء بنية تنسيقية مرنة تضم جميع الشركاء: الوزارات، الجامعات، القطاع الخاص، المجتمع المدني، والغرف التجارية.
⦁ دمج التعليم المهني ضمن خطط الإغاثة وإعادة الإعمار، وليس فقط كجزء من الخطط طويلة الأجل. - مواءمة التعليم مع سوق العمل المتغير
⦁ إطلاق رصد دوري ودقيق لاحتياجات سوق العمل، خاصة في مجالات البناء، الزراعة، الطاقة، الصحة، الرقمنة، الخدمات اللوجستية، والمشاريع الخضراء.
⦁ تصميم مناهج قائمة على الكفايات، تركز على المهارات القابلة للتطبيق، ومشاركة القطاع الخاص في تطويرها.
⦁ إدماج التعلم القائم على العمل (Work-Based Learning) ضمن كل البرامج، وتحفيز المؤسسات على استضافة المتدربين. - بناء القدرات والبنية التحتية
⦁ إعادة تأهيل مراكز التدريب المتضررة، وبناء مراكز متنقلة في المناطق المحاصرة أو المهمشة.
⦁ تدريب الكوادر التدريسية على مناهج حديثة، وتقنيات رقمية، وأساليب تفاعلية ومتمركزة حول المتعلم.
⦁ تعزيز استخدام التكنولوجيا والمنصات الرقمية كأدوات بديلة ومُعزِّزة للتدريب في ظل تحديات التنقل. - التمويل المستدام والتشغيل السريع
⦁ إنشاء صندوق وطني طارئ لدعم البرامج التدريبية السريعة الموجهة للنازحين والعاطلين.
⦁ ربط التمويل بنتائج ملموسة، مثل نسب التوظيف ومعدلات نجاح المشاريع الريادية.
⦁ تفعيل أدوات تمويل مبتكرة مثل:
⦁ القسائم التدريبية (Training Vouchers)
⦁ قروض التعليم المهني منخفضة الفائدة
⦁ شراكات تمويل مشترك مع القطاع الخاص والمؤسسات الدولية. - تغيير الصورة النمطية
⦁ حملات وطنية ممنهجة لتغيير النظرة المجتمعية السلبية تجاه التعليم المهني.
⦁ التركيز على قصص النجاح الواقعية لخريجي البرامج المهنية الذين أنشأوا أعمالًا ناجحة.
⦁ دمج الإعلام، والمؤثرين، ومؤسسات التعليم الأساسي في نشر الوعي.
⦁ ربط التعليم المهني بقيم الكرامة، والاعتماد على الذات، والمواطنة المنتجة.
رابعاً: فرص استراتيجية في قلب الأزمة
⦁ الاقتصاد الرقمي: إدماج مهارات البرمجة، وتصميم التطبيقات، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والتحول الرقمي في المسارات المهنية.
⦁ الطاقة المتجددة: تطوير مهارات تركيب وصيانة أنظمة الطاقة الشمسية، وتدريب فنيين متخصصين في تقنيات الطاقة النظيفة.
⦁ البناء وإعادة الإعمار: تدريب مهنيين على أساليب البناء المستدام، وإدارة المواقع، والسلامة المهنية، والمياه والصرف الصحي.
⦁ الصحة والرعاية: تطوير برامج مهنية لمساعدي التمريض، والإسعاف، والعلاج الطبيعي، والرعاية المنزلية، خاصة في المناطق المتأثرة بالحرب.
خامساً: النتائج المتوقعة من التحول المهني
⦁ خفض معدلات البطالة تدريجيًا خلال 3 سنوات بنسبة تتراوح بين 20–30% في المناطق المستهدفة.
⦁ تحسين الدخل الفردي وزيادة إنتاجية اليد العاملة.
⦁ دعم التعافي الاقتصادي والاجتماعي من آثار الحرب والركود، وتعزيز فرص الاستقلال الاقتصادي.
⦁ تأسيس اقتصاد أكثر مرونة واستجابة للأزمات من خلال مهارات قابلة للنقل وسريعة التوظيف.
⦁ تعزيز الأمن المجتمعي عبر تقليص الفجوة بين الأجيال الشابة وسوق العمل.
من التعليم إلى السيادة
التحول إلى نموذج اقتصادي إنتاجي يبدأ من التعليم، ويتحقق عبر الاستثمار في الإنسان الفلسطيني: مهاراته، قدراته، وطاقاته غير المستغلة. إن إصلاح التعليم والتدريب المهني ليس مجرد ملف تقني أو قطاعي، بل هو مشروع سيادي واستراتيجي.
في معركة التحرر والبناء، لا يكفي أن نحمل مفاتيح العودة… بل يجب أن نحمل أدوات الإنتاج.
فمن هنا تبدأ فلسطين القوية.