
البوابة الزمنية في ديوان “أمي” للشاعر يوسف أبو ريدة ، بقلم : د. مريم أبوبكر
يستقل الشاعر أبو ريدة عبر بوابة الزمن بِكُلِّه روحه؛ ليصل باكرًا مشيعًا جسد أمه, جاذبًا روحها خالدة نحوه, وبشكل دائري تطوف حول حبيبها مركز الوِداد, وفي بحر الألم يغوص الفؤاد.
وبحسب أينشتاين روزن بريدج “Einsten Rosen Bridg” يسافر الشاعر عبر بوابة الزمن الأرضية متنقلا بين أبعاد الماضي وشرفة الحاضر لاستشراف المستقبل, متأملًا في مصير ذاكرة اللّغة والهُوية.
ويستقل أبو ريدة لغته؛ ليَعْبُرَ جسور المدى لأزمنة بعيدة الصدى عبر نفق الشّعر, وعلى عجالة يعيد تركيب صورة الفقيدة بكل أشكال الوفاء, يمنح الزمن بعدًا إنسانيًا متجاوزًا حدود المكان, يعاتب النّعش عله يبطئ قليلًا, حتى تصل رياح الشمس إلى حديقة الشعر الملكية, ونغمة ألم خفيفة, يقول الشاعر:
يا نَعْشُ لو أَبْطأْتَ عَلَّ حبيبَها
يَأتـــــي يُقبِّـــــلُ وجْهَهَــــا ويُوَدّعُ
أو عَــــلَّ أقدامـــي تُقِلُّ مَفاصلي
فَأَقُـــــومُ مِثْلَ أحِبَّتـــــي… وأُشَيّعُ (أبو ريدة, 2025, 17)
وبمفتاح مستدير الشّكل ذهبي الخامة, يفتح الشاعر باب الغيم على ذكرى طفولته, في مهد الحُب, وندى العُمر ربيع الدّعوات, وبحواسه يشكل المَعنى؛ إذ يقول:
ما زلتُ طفلًا في يديكِ تَحوطُني
بِنــــدى الحيـــاةِ عواطرُ الدعَواتِ
أرعى عيــوني إنْ رعيتُك مُخلصًا
فَبِنـــورِ عينيـــك قد رأيتُ حياتي
وبِنُــــورِ طُهرِكِ قد تَوَضَّأَ خافقي
وبِعطـــرِ صوتِـــكِ قد تَــلوتُ صلاتي
وبِصدقِ سمعِكِ قد سمعتُ مشاعري
وبِـــروضِ ثَغْــــرِكِ قد نَمَـــتْ كَلِمـــاتي
قَدَمــــاكِ قادتْنــــي إلـى دربِ العُـــــلا
حتّــــى رأيــــتُ النَّجـــمَ بعضَ حُداتي
ويـــــداك أزهـــــرتـــــا بكفـــــي فابتـــدا
نهـــــر العطـــــاء وبلســــم البركــــات (أبو ريدة, 2025, 9)
ومن بئر الأمان, يحصد الفلسطيني قمح الشهادة, ومن حصن الشجاعة يفاوض الشاعر ذئبًا لا يرجو منه عفوًا, يرتدي في معصمه ساعة الزمن, تدق الساعة العاشرة, فيقول:
في العاشرةِ تمامًا جاء الخبرُ, استُشهدَ أحمدُ,
كان شجاعًا,
ما سلَّم في يومٍ للأعداءِ الظَّهْرَ,
فكيفَ سيرجو عَفْوَ الذِّئْبِ,
ويَطْلُبُ صَفْحَهْ؟ (أبو ريدة, 2025, 12)
ينهض أبو ريدة من ركام مشاعره, بروح أتعبها السفر, ومن رائحة العنبر العابقة, تتشكل أمنياته واحة عبر مدارات اللغة وأصواتها, تنهض بوعي الشاعر نحو الذاكرة, وأسئلة مؤجلة قائلًا:
أسْنِديني, أَلَا وكُوني بِقُرْبي
وانْفَحيني بِعَنْبرِ الذِّكْرياتِ
عَلَّ قَلْبي يَعودُ حَيًّا بِجَنْبي
فَأَرَى الكَوْنَ واحَةَ الأُمْنياتِ (أبو ريدة, 2025, 28)
ويرحل الشاعر متلاشيًا قلبه عالقًا في مستقبلِ الوجودِ, متوجهًا نحو ذكرى البيانِ وجَذْره, على عتابِ يقين النهر وعُنفوانه, في مُحاولة للبعدِ عن الحزن, يَدقّ باب الحنين للقاء محبوبته؛ إذ عز اللقاء, قائلًا:
وَرَحَلْتِ أَبْعَدَ ما تَكونُ مَسَافَة
لكنْ ظَلَلْتِ على الزَّمانِ بَياني
أَتْلـــوكِ ذِكْــــرًا صادقًـــا مُتَبَتِّـــلًا
ويَفيــــضُ نَهْــــرُ الحُبِّ كالقُرآنِ
يا أمُّ قَد عَــزَّ اللِّقَـاءُ فَهَــلْ لنـا
لُقْيًــــا بعيدًا عَنْ لَظَـى الأَحْزانِ (أبو ريدة, 2025, 30)
يملك أبو ريدة بوصلة الزمان, ترشده بصمت الحب, بوعيه يحاصر فضاء الشوق, وبكل وجع يحتضر الوقت, وأثر بعيد المدى, كَوْنٌ يضيق كلما اتسع, يقول الشاعر:
مَنْ لي الآنَ والفضاءُ ضِباعٌ
جائِعــــاتٌ وغُصَّةُ لا تُطـــــاقُ!
مَن لــــي الآن والأحِبَّـــةُ وَهْـمٌ
يَرْحَلُ الحُبُّ صامتًا والرِّفاقُ؟
بَعْـــدَ عينيــكِ لا حَيــاةٌ وحُبٌّ
لا وَفـــــاءٌ ولا مُنى واشْتِيـاقُ (أبو ريدة, 2025, 39)
وبين بُعدين برزخ اللّقاء المُنتظر, حلم هانئ يضيء عتمة الزمان, ينحت الشاعر بإحساسه الحرف على تشكيلات الصخور حمراء اللّون, وفاء لا تَفاوض فيه, يقول أبوريدة:
مُمَزَّقُ الــرّوحِ, لا ثَغْـــري يعــاتبُهُمْ
ولا حُروفــي التي كـانتْ لَهُمْ قاتـــا
راحوا, وجاؤوا, وراحوا ثُمّ تَجْذِبُهُمْ
إلـــيَّ مَصْلَحَــــةٌ, قَدْ فـــات ما فاتا
وا ضَيْعَةَ الحُبِّ والأَحلامِ في زَمَنٍ
صـــارَ الوفـــاءُ بِهِ يَعْني: ألا هاتا
حَتَّـــى بِحَرْفٍ قَليلِ الحَظِّ قَدْ بَخِلوا
وَعِنْـــدَ غَيْرِيَ صــار الحَرْفُ نحَّاتــا (أبو ريدة, 2025, 46)
وعبر منفذ طاقي, وبازدواجية الحضور والغياب, وفتور الذهاب والعودة, وعنفوان الصخب والهدوء, يرتقي الشاعر درج زرقة البحر, وبرئتين صباحيتين يستنشق شهد القهوة, متسائلًا:
أَأَعودُ نَحْوَ الباب أَحْضِنُها
وأَظَلُّ في الجِنْحَيْنِ مُؤْتَنِقا؟
كانتْ دواعي الرِّزْقِ تَجْذِبُني
أَترى تُتَمْتِمُ: لَيْتَ ما انْطَلَقَا؟
وَخَطَوْتُ…قَلْبي في أَضالِعِها
وَفُؤادُها في أَضْلُعي احْتَرَقا
أَخُدِعْتُ إذْ كانَتْ تُضاحِكُني؟
وَيَفِــــزُّ شَهْــــدُ دُعائِهـــا عَبَقَـا (أبو ريدة, 2025, 49)
وبين ما يظهره بيت القصيد وما يُضمِرُه, تنصهر الفوارق بين ثنائية, الجسد والروح, والمرئي واللامرئي, وفي البعد الآخر تظهر حقيقة المرآة المقلوبة, ويتجاوز الشاعر خياله نحو حقيقة الفراق, بمفردات دالة؛ ” وافترقنا, وحدي, بُعدَكِ, هجر…” ولا وقت للانتظار!, والوعي بخلاف الواقع, يقول أبوريدة:
وافْتَرَقْنـــا وذي الثّوانـــي تَمُـــرُّ
كالحـــاتٍ كَـــأَنَّ بُعْـــدَكِ هَجْـــرُ
مُسْتَقيمـــانِ غَيْرَ أَنَّ فـــؤادي
فيهِ أَحلى مَباهِجِ الكَوْنِ مُرُّ
وَحْدِيَ الآن تَسْتَبيحُ فؤادي
ذِكْريــــاتٌ كــأنَّ بُعْــــدَك دَهْرُ (أبو ريدة, 2025, 60)
وتظهر الحقيقة في صخب الوعي, أسئلة عنقودية الإشارات, تجتاح عمق اليقين, وأحفورة تشكلت عبر الزمان, قلبان لا يلتقيان, لكن “الشجرة لا تحجب ظلها حتى عن الحطاب!”, يقول أبو ريدة:
أَتَظُنُّ مَنْ يَأْتي سَيَمْنَحُ وُدَّهُ؟
مَهْـــــلًا بُنـــــيَّ فَكُلُّهُــــمْ أَغْرابُ
لا يَلْتقـي قَلبانِ, قَلْبٌ عاشقٌ
أَبَدًا, وَقَلْبٌ في الهوى حَطّابُ
شَتَّـــــانَ بينَ مُعَــذِّبٍ ومُعَــذِّبٍ
مَنْ أَخْلصوا صِدْقَ الهوى وارْتابوا (أبو ريدة, 2025, 75-76)
يرسو الشاعر بِكُلِّهِ على مرفأ الحلم, يرحل بعينيه ليطفئ نار الشوق, لا ندم من الحب الكبير الذي يُضْمره الشاعر لأمّه وطنه فلسطين, فهي أمنه وأمانه, يجتث الحزن من قلبه, حتى إذا عاد ظمآنًا, ارتوى من سطور ذكرياته, إنّ الأنا العليا المسيطرة تحلق عاليًا في الأفق, ينحت تمثال الحرية, والمغزى في خاتمة الحكاية!, يقول أبو ريدة:
وَتَسَلّلَت عَيناكَ تَقْرَأُ أَسْطُـــري
وَتَظُنّ أنَّ الشِّعــرَ أَطفَأَ نــارَهُ
فَتَعودُ ظمأى الرُّوحِ تَبْحثُ عن فَتًى
يَجــــري بلا حُــــزنٍ يَلُفُّ دِيارُهُ
يا ما نَدِمْتُ لِساعةٍ أَطْعَمْتُهــا
قَلْبــــــي, وكُنْتُ أظنُّها عُمّـــارَهُ
لكنــــــّها قَصَفَــتْ دمـــي بِتَنَكُّــــرٍ
مِنْ بَعْدِ أنْ سَحَقَ الهوى آثارَهُ
لن تَسْقُطَ الدّنيا على أَقْدامِها
إنْ رُحتُ أُسْقِطُ عامدًا تَذْكـــارَهُ أبو ريدة, 2025, 84-85)
ومن رائحة السرو العابقة يغتال الموت أمل السراب ويغرق في بحر الشقاء, فيثمر النخيل على أناة الحياة عشقًا, ويجْني ثمر الزّيتون عبق السّلام, ويسمو بين دوامات الحرية شُعلةً تعلو فوق غدر الغزاة, يقول الشاعر:
وَيَعْتَصِرُ الحقيقةَ مِنْ رمـــادٍ
تَجَلَّى في احْتِراقِ الذِّكْرَياتِ
أَجَلْ والكَوْنُ يَسْحَرُ كُلَّ عَينٍ
وَيَمْضُــــغُ كُلَّ أَفْراحِ اللَّهــــــاةِ
فَتَغْــــــدو نِيَّـةُ الأَمَــلِ المنايــــا
وَتكــــرارَ السَّـــرابِ بلا أَنـــــاةِ
وتسرق خضرة السرو المفدى
وَتَقْتَطِفُ النَّخيلَ بِلا الْتِفاتِ
وَتَمْحَقُ كُلَّ غُصْنٍ مُشْرَئِبٍ
مِنَ الزَّيْتـــونِ شَوْقًا لِلْحيـــاةِ (أبو ريدة, 2025, 109)
يستكشف أبو ريدة عوالم الخفاء والخيال متنقلًا بين الحرية والقدر والهُوية, يعود لماضي السلام, ويعايش حاضر الطبيعة الغناء, وبسرعة الضوء يستشرف مستقبل قرار المصير, وخارج إطار الزمان يدق تمثال وعي الروح في فهم عميق لمعطيات الكون, وبين زمنين نصفه من الماضي ونصفه من المستقبل برزخ قصة الشهادة والخلود, ويعود الشاعر من رحلته إلى حاضره, يحمل مفتاح البوابة الزمنية قيد تفعيل عالم الحقيقة, فلسطين أحفورة في الروح, وشوق الحياة! .
المصادر: أبو ريدة, يوسف(2025): ديوان أمي أسئلة الغياب الأولى. ط1, الشارقة-الإمارات العربية المتحدة: منشورات راميتا