
صوت الضمير يرتفع في أوروبا: كيف قلبت غزة المعادلة السياسية؟ بقلم : الصحفي سامح الجدي
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر 2023، والذي تطور إلى واحدة من أكثر الحملات العسكرية دموية ضد المدنيين في التاريخ الحديث، بدأت بوادر تحول واضح في المواقف الأوروبية تجاه إسرائيل، سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي. فالمجازر اليومية، وتدمير البنية التحتية، واستهداف المستشفيات ومخيمات النازحين، وضعت أوروبا أمام اختبار أخلاقي وقانوني لم يعد بالإمكان تجاوزه بالصمت أو التبرير.
من التأييد التقليدي إلى النقد العلني
لطالما تبنت معظم الدول الأوروبية مواقف داعمة لإسرائيل، سواء بدافع شعور تاريخي بالذنب تجاه اليهود بعد الهولوكوست، أو بسبب العلاقات الاستراتيجية والاقتصادية. لكن الحرب على غزة، وما رافقها من صور مروعة لضحايا أطفال ونساء، دفعت الرأي العام الأوروبي إلى التمرد على هذا الإرث. شهدنا مظاهرات حاشدة في باريس ولندن وبرلين ومدريد، ترفع شعارات تدين الإبادة الجماعية، وتطالب بوقف الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل.
هذه الضغوط الشعبية انعكست على بعض المواقف الرسمية، حيث صوتت دول أوروبية مثل إيرلندا وإسبانيا وبلجيكا لصالح قرارات أممية تطالب بوقف إطلاق النار، فيما قامت دول أخرى، كالنرويج وسلوفينيا، بالتحرك للاعتراف بدولة فلسطين، في خطوة رمزية تعكس فقدان الثقة في إمكانية تحقيق “السلام” تحت الاحتلال.
دوافع التحول
يمكن تلخيص أسباب هذا التحول في الموقف الأوروبي في عدة عوامل:
- تأثير الإعلام المستقل ووسائل التواصل: وسائل الإعلام التقليدية لم تعد قادرة على احتكار السرد. فقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي، والصحافة الاستقصائية، دورًا بارزًا في كشف حجم الجرائم والانتهاكات على الأرض، ما خلق وعيًا جماهيريًا تجاوز الرواية الإسرائيلية الكلاسيكية.
- الضغوط الشعبية المتصاعدة: اتساع رقعة الاحتجاجات والاعتصامات في الجامعات والشوارع، ومشاركة فئات أكاديمية ونقابية وثقافية فيها، جعل من الصعب على الحكومات تجاهل مطالب شعوبها.
- الحرج الأخلاقي والقانوني: اتهامات المحكمة الجنائية الدولية بإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، دفعت دولًا أوروبية إلى إعادة تقييم موقفها، خشية التواطؤ أو المشاركة في هذه الجرائم من خلال استمرار الدعم غير المشروط.
- التوازن الجديد في العلاقات الدولية: مع تصاعد أدوار الصين وروسيا، وتزايد الضغوط على النظام الدولي القائم، تسعى أوروبا إلى الحفاظ على صورتها كمدافع عن حقوق الإنسان، خاصة في الجنوب العالمي، ما يجعل الصمت على مجازر غزة مكلفًا سياسيًا.
المعادلة تتغير
التحول الأوروبي لم يصل بعد إلى مستوى القطيعة الكاملة مع إسرائيل، لكنه يمهد لتحولات أعمق في المستقبل. اعترافات متوقعة بدولة فلسطين، وربما فرض عقوبات أو قيود على الصادرات العسكرية لإسرائيل، كلها مؤشرات على أن أوروبا لم تعد مستعدة لتجاهل الكارثة الأخلاقية الجارية في غزة.
إن صوت الضمير الذي ارتفع في شوارع أوروبا، قد يكون بداية عصر جديد، تُراجع فيه القارة مواقفها من الاحتلال والاستعمار والعنصرية، لا سيما حين تكون موثقة بالدم، ومُشاهدة بالبث المباشر، كما في غزة.