
“مصاري أكثر ولا وطن أكثر؟” ، حين تتحول الوطنية إلى تذكرة موسمية مدفوعة الثمن ، بقلم : المهندس غسان جابر
في لقاء له عام 2019 مع ممثلي القطاع الخاص، سأل رئيس الوزراء الأسبق محمد اشتية سؤالاً صارخًا: “بدكم مصاري أكثر ولا وطن أكثر؟”. سؤالٌ أراد له أن يكون امتحانًا للوطنية، لكنه في واقع الحال كشف عن مفارقة حادة في السياق الفلسطيني: من يملك القرار يوزع صكوك الانتماء، ومن لا يملك، يدفع ثمن الوطنية من قوته وحلمه وحريته.
في هذه الأرض التي تتقاطع فيها قضايا الاحتلال بالفساد، والاستيطان بالمصالح الطبقية، لم تعد الوطنية خيارًا نضاليًا حرًا، بل أصبحت – في كثير من الأحيان – سلعة موسمية، تُعرض في المؤتمرات، وتُعجن بخطابات ممجوجة، بينما يتم تحميل الفقراء والمهمشين وحدهم كلفة الدفاع عنها.
يُطلب من الفلاح أن يصمد دون حماية، ومن العامل أن يقاوم دون أجر، ومن الطالب أن يحلم دون أفق، في الوقت الذي يتم فيه توزيع الامتيازات، وبناء التحالفات بين رأس المال ومراكز التأثير، تحت مسمى “التنمية” أو “الصمود الاقتصادي”. وطنٌ يُخصخص يومًا بعد يوم، بينما تُفصّل السياسات بما يخدم مصالح قلة محظوظة تربطها علاقات بالشبكات المالية والسياسية، لا بالشوارع والمخيمات.
هنا، تبرز المبادرة الوطنية الفلسطينية كصوت مغاير للمألوف، وكتيار اختار منذ انطلاقه أن يقف إلى جانب “الذين لم يُمنحوا شيئًا سوى الألم”، والذين لا يحظون بحماية إلا من صبرهم الجماعي وكرامتهم المستعصية على الترويض.
المبادرة لم تهادن في الموقف، ولم تساوم على المبادئ، بل تبنت رؤية وطنية جذرية ترى أن المقاومة لا تكون حكرًا على فئة ولا موسمية، بل هي خيار استراتيجي يجب أن يشمل كل أشكال النضال وعلى رأسها المقاومة الشعبية. وهي حركة دعت – وما تزال – إلى مقاطعة الاحتلال، ورفض كل أشكال التبعية الاقتصادية التي يُراد لنا أن نعيشها كواقع لا يمكن تجاوزه.
لكن دور المبادرة لا يقف عند حدود الاحتجاج والموقف، بل يمتد إلى إعادة بناء الوعي الجمعي الفلسطيني، وتثوير المفاهيم التي سُرقت من الشعب، وأُفرغت من معناها الحقيقي. فالوطن ليس مشروعًا استثماريًا، والمقاومة ليست مناقصة، والحرية لا تأتي من مؤتمرات المانحين، بل من فعل الناس اليومي، من وجعهم، من قدرتهم على قول “لا” في وجه القهر بكل تجلياته.
كما أن المبادرة رفعت منذ البدايات شعار الوحدة وإنهاء الانقسام، باعتبارهما بوابة الخلاص الوطني، ولأن استمرار الانقسام لا يخدم سوى الاحتلال ومن راكموا النفوذ على حساب دماء المناضلين وأحلام الناس. لقد دافعت المبادرة عن الحريات العامة، وواجهت القمع السياسي، ووقفت مع الفئات المهمشة، لأنها تدرك أن معركة التحرر لا يمكن فصلها عن معركة العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
إن السؤال الحقيقي ليس: “مصاري أكثر ولا وطن أكثر؟”، بل: “لمن يُبنى هذا الوطن؟ ومن يحق له أن يحلم فيه؟ ومن يحرسه حين تتقاطع البوصلة بالمصلحة؟”
الجواب ليس في الصيغ الخطابية، بل في الفعل الجماعي، في استعادة زمام المبادرة من النخب الفاشلة إلى القواعد الشعبية. فالوطن لا يُبنى بالشعارات، بل بالنزاهة، بالشجاعة، وبالقدرة على إعادة الاعتبار للناس الذين صمدوا رغم كل شيء، لأنهم لا يعرفون طريقًا سوى الكرامة.
- – غسان جابر – مهندس وسياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.