
“قطة فوق صفيحٍ ساخن” ، حين تكتب الروح على جدران الألم بالحبر والدمع ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
في عالم يضجّ بالضجيج، حيث تتكسر الكلمات على أرصفة الصمت، ويضيع الأدب في زحام السرعة والسطحية، يأتينا الأديب مراد ساره إشارة بكتابه المميز “قطة فوق صفيحٍ ساخن”، ليعيد إلى النص الأدبي هيبته، وإلى الكلمة معناها العميق، وإلى الحرف وظيفته الأولى: أن يكون مرآةً للروح ونافذةً على الحقيقة.
الغلاف: صفيحٌ يئنّ تحته الهشّ
من اللحظة الأولى التي تقع فيها عيناك على الغلاف، تشعر وكأنك تقف أمام لوحةٍ مشتعلة بالحيرة. العنوان وحده قصيدة كاملة، محمّلةٌ برمزية تنوء بحملها الأعناق. “قطة فوق صفيحٍ ساخن” ليست مجرد صورة، بل هي استعارة وجودية؛ القطة هنا هي الكاتب، هي الإنسان، هي فلسطين، هي كل كائنٍ هشّ وجد نفسه مصلوباً على حرارة الواقع، مضطرًا لأن يقفز في الهواء خوفاً من السقوط، وفي كل قفزةٍ حكاية، وفي كل موطئٍ ألم.
الغلاف لا يزيّن الكتاب فحسب، بل يمهّد له، ويشعل في القارئ نار الترقب، وكأنه يهمس له: هنا لن تجد راحة، بل مواجهة. هنا لن تجد الزهور، بل أشواكها العطرة. هنا حيث تقف القطة، لا مجال للهروب، بل للكتابة على النار.
الإهداء: كلمةٌ تشبه دقّات القلب الأولى
أما الإهداء، فكان بمثابة النفَس الأول الذي يتنفسه المؤلف في حضرة القارئ. لم يكن مجرد عبارات مجاملة، بل كان صلاةً داخليةً، تقطر صدقًا، وتمرّ عبر الحروف كما يمر الضوء من نافذةٍ ضيقة في جدارٍ كثيف. أهدى كلماته للذين يمشون حفاة على جمر الحياة، ولأولئك الذين يزرعون القصائد في مقابر الوقت، ويؤمنون أن الحرف قد يكون نجاة. الإهداء كان دفتر اعترافات، لا يخجل فيه الكاتب من ضعفه ولا من دمعه، بل يحتفي بذلك الضعف، لأنه البذرة الأولى للقوة.
النصوص: موسيقى الروح على وتر النار
حين تبحر في نصوص الكتاب، تشعر وكأنك تسير في مدينةٍ مهجورة، كل بيت فيها قصيدة، وكل شارع وجع. اللغة هنا لا تسير على أقدامٍ تقليدية، بل تطير بجناحين من المجاز والدهشة. الكاتب لا يكتب بحبر، بل يكتب بدفقات من الشعور الصافي، كمن يغمس قلمه في جرحٍ لم يندمل، ويتركه ينزف على الورق.
النصوص تتأرجح بين شعرٍ ونثر، بين غنائية حُبلى بالعاطفة، وسردية تقبض على الواقع بأنياب التأمل. لا تصنيف يقيدها، ولا جنس أدبي يحدّها، فهي مثل القطة في عنوانها: حرة، مشاكسة، قادرة على التوازن فوق أكثر اللحظات سخونة.
في كل صفحة، تلمح ظل الوطن، طيف الأم، شبح الغياب، وصوت الطفل الذي ما زال يركض خلف طائرٍ ذبيح. في كل نص، رائحة تراب، صدى رصاصة، همس امرأة تنتظر. كل جملة هي خطوة في حقل ألغام، وكل استعارة هي طائر يحلّق فوق مدينة محترقة.
الأسلوب: نقشٌ نحويّ على حجر المعنى
اللغة في هذا الكتاب ليست وسيلة تواصل فحسب، بل هي بطلٌ مستقل، له صوته وملامحه وجنونه. الجمل طويلة أحياناً، مختنقة أحياناً، حادة أحياناً، لكنها دوماً نابضة. الأسلوب نحويّ متماسك، جملته كأنها مبنية على إيقاع داخليّ، لا تخرج منه إلا لتدخل في موسيقى جديدة. والتراكيب تتكئ على أصالة اللغة العربية، لكنها في الوقت ذاته تمسك بأهداب الحداثة، فتتراقص بين الجذور والأجنحة.
في الختام: هذا الكتاب لا يُقرأ، بل يُعاش
“قطة فوق صفيحٍ ساخن” ليس كتابًا تقرؤه في ليلة، ثم تنساه عند الصباح. إنه تجربة، رحلة، مرآة، وحتى صفعة. إنه دعوة إلى أن نعيد تعريف الألم، لا بوصفه ضعفًا، بل بوصفه خزّاناً للحكمة. مراد عبد الفتاح كتب نصوصاً تشبه الطقوس، طقوس التئام الروح عبر النار.
هذا الكتاب هو القطرة التي تنزف من جبهة اللغة، وهو الصفيح الذي نحترق فوقه جميعاً، دون أن نفقد جمال القفز.