4:35 مساءً / 17 مايو، 2025
آخر الاخبار

“أنا خالد يا أمّي ، غدوتُ طبيبَ أطفالِ غزةَ في السماء” ، بقلم : غدير حميدان

“أنا خالد يا أمّي… غدوتُ طبيبَ أطفالِ غزةَ في السماء” ، بقلم : غدير حميدان

قصة قصيرة مهداة إلى أمّهاتنا اللواتي غَزَلْنَ الصبرَ تيجانًا من أغصان الزيتون، في انتظار الغائبين الحاضرين في بيدر الحنين…إلى كلّ أمّ ارتدى فلذة كبدها رداء حلمه وكُفّن به…

لم يكن خالد سوى زهرة برّية نبتت في قلب المنافي، فلسطينيّ الدم والهوى، نشأ بين عواصم الرمل وشواطئ الشوق، حيث كان الحنين يُنقّط على جدران الغربة كما يَنقُط الندى على زجاج نافذة في شتاء الوطن.


مغترب مع أسرته، حمل الوطن في حقيبة، وجعله وسادة وأغنية. جاء إلى فلسطين ليدرس الطبّ في جامعة القدس، وكان القلب يخفق كلّ صباح حين تلمح عيناه قبة الصخرة من نافذة سكنه… يصافحها بنظراته، يأخذ من قرصها الذهبي جرعة أمل، ويهمس:


سأصير طبيبًا… وسألمّ شتات من تبقّى في هذا البلد المتعب.
كان يدرس مع إخوته. يقتسمون رغيف الغربة، وأحلام النجاح، وكؤوس السهر المرّ.
وفي كل ليلة، كان يتحدّث مع والدته وهو ينزف دموع الحنين: أماه، اشتقتُ إلى قهوتك بالهيل، إلى حنانك… لكنني باقٍ هنا، لأصبح الطبيب الذي حلمتِ به.
وكانت الأمّ تردّ ببسمة يختلط فيها الفخر بالوجع: وأنا يا خالد، أُصلّي لك في كلّ سجدة… أن تعود إليّ طبيبًا، تُضيء كبيتٍ في الحيّ العتيق.
في سنة الامتياز الأخيرة وبينما كان خالد يسير متنقّلا بين أقسام المستشفى الحكومي، أحسّ بصداع غريب، تعب مفاجئ، ودوار لا يُشبه أيّ إرهاق عرفه سابقًا.
ظنّه تعب السهر والدراسة، فاتّكأ على المسكنات كمن يستعين بالوهم ليرمّم جسدًا متعبًا.
لكنّ جسده بدأ يخونه، فبينما كان يُعاين طفلاً مريضًا، أحسّ بأن الدنيا تميل به، فطلب من زميله أن يُجري له بعض الفحوصات.
جاءت النتيجة كصفعة: ارتفاع حاد في أنزيمات الكبد.
فزع الأصدقاء، سهر الإخوة، بكت الأمّ من خلف البحار، وأُدخل خالد إلى العناية المكثفة في حالة من الاستسلام العاجل حتى غاب في غرفة العناية المكثفة.
مرت أيّام من الصراع. جسدهُ يذوب، ولكن عينيه ظلّت تلمعان بشوق.
وفي مساء يوم حزين، أسلم خالد روحه… وارتدى البياض الأخير.
غاب في السماء وامتطى حصان الأحلام السرمدي، كان خالد يُحلق.
رأى نفسه في سماء غزة، يمسك بأيدي الأطفال الصاعدين من تحت الركام، يعيد لهم أجنحتهم المبتورة، يُجبر أرواحهم بلمسة من نور، ويقول:
أنا طبيبكم الآن… هنا، حيث لا وجع، لا حصار، لا قصف.
تأتيه أمّه في الحلم، تلمس وجهه، وتبكي:
خالد، أين أنت؟
فيردّ مبتسمًا:
أنا في السماء يا أمّي، غدوتُ طبيب أطفال غزة… أخفّف عنهم ما عجز العالم عن مداواته.
اشتقتك يا خالد.
وأنا أشتاقك يا أمّاه، في كل نسمةٍ تحمل تراب القدس، أعود إليك..
ذات مساء، تهمس القدس لصورة خالد المعلّقة على جدار المستشفى:
يا بني، كنتَ تمرّ بي كلّ صباح، تنظر إليّ وتهمس: سأعود إليك طبيبًا… وقد عدت.
فتردّ الأرض:
عاد بي كفنًا معطّرًا، لكنّه غرس في تربتي بذورًا من الخلود.
أنا خالد يا أمّي… غدوتُ طبيب أطفال غزّة في السماء.
ألبس رداء الملائكة الأبيض، أداوي أرواح الصغار الذين لم ينصفهم العالم…
أحمل حقيبتي، وأركض خلفهم بين نجوم السماء، وأسجّل اسمي على لوائح الأمل.
في آخر الليل، حيث تسكن الريح وتئن الأرض بأسمائها الراحلة، جلست أم خالد عند التلة المواجهة لمقبرة الشهداء تحمل في يدها قميصه الأبيض، وفي عينيها قنديل الحنين.
نادته بصوتٍ يتقطّر كحليب صدرٍ لم يكتمل:
يا خالد، يا فرحي الضائع بين شفاه الطب والقدر، هل تسمعني من مقامك العالي؟
هل تسمعني من تحت التراب؟ هل فتّشتَ عن قُبلةٍ نسيتُها على جبينك؟
سكتت الأرض؛ لكنّ الغيم انتفض.
انشقّ السحاب كأنه باب سماء يُفتَح على حين حبّ، وانهمر المطر…لا كأيّ مطر.
كان صوته فيه، دفء أنفاسه، رنين ضحكته، نبض قلبه، وهمس بصوتٍ تعرفه،
صوت خالد، ابنها الطبيب، ابن فلسطين:
لا تبكي يا أمّي، أنا خالد، وما زلت أعيش بين يديكِ، أغسل أوجاع أطفال غزة، وأضمّد جراحهم بنور، أركض معهم على شاطئ يافا، وأرسم لوجوههم سماءً بلا حصار.
أنا المطر يا أمّي، ألمسكِ حين تصلين، وأطوف حولك حين تنامين.
فانهمر المطر أكثر، وغسلت القبور، وابتلّت يداها، فرفعت رأسها نحو السماء،
وهمست كما تهدهد طفلًا:
نَم يا خالد، نَم في المطر لا في التراب، نَم في ضوء الله، لا في ظلمة الغياب، نَم في قلبي، فأنا الأرض، وكلّ مطر بعدك صار صوتك، فأنت صوت الأرض.

شاهد أيضاً

بالتعاون مع إنجاز فلسطين ، جامعة خضوري تُطلق برنامجاً تدريبياً لتعزيز مهارات الاتصال والتواصل لطلاب التعليم التكاملي

بالتعاون مع إنجاز فلسطين ، جامعة خضوري تُطلق برنامجاً تدريبياً لتعزيز مهارات الاتصال والتواصل لطلاب التعليم التكاملي

شفا- انطلق البرنامج التدريبي “مهارات الاتصال والتواصل” الموجَّه لطلاب التعليم التكاملي في جامعة فلسطين التقنية …