
“الحجُ إلى مشاعرِ النفس” بقلم : إيمان مرشد حمّاد
كلُّ عامٍ من أعمارنا هو حج روحي نذهب فيه إلى كلِّ المناطق المقدسة في قلوبنا، والمزارات الخفية داخل أرواحنا لنكتشفَ المناطق المظلمة التي تستوطن ذاكرتنا دون أن نعيَّ ماهية وجودها.
لقد كانَ عامي المنصرم من أكثر الأعوام صعوبة فقد عشنا فيه جميعاً لحظات مرعبة ومشاهد مؤلمة تُقطّع نياط القلب. لقد ابتلعنا الألم كسُم زعاف املاً في ان يموت من سببوه لنا، ولنسيان ما شاهدتهُ وشاهدتموه
معي عمِلَ عقلي كمرجل يغلي بالأفكار وتوقدهُ جذوةُ الألم الطاغي على الفرح. أنا التي لطالما دخلت محراب الكتابة كعابدٍ يلوذ فيها من جذوة الوجع ، لم أجدها عندما أردتها ان تكون تمرداً خفياً على عالم يزخر بالقتامة فقد غدتْ بلا جدوى في عالم وحشيٍّ لا يرحم.
وفي أيام هذه السنة الباذخة بالشجن شاخ قلبي ، وأصبح عقلي يحمل عكازاً يَهش به على عالمٍ من القهر المتجدد وكأنه أوراق أشجار تسقط تحت وطاة الخريف وتنبُتْ تحت أشعة الشمس الدافئة. كنتُ امسك قلمي وكأنه نصل سكين نسيتُ ان اشحذهُ فأصبح صدئاً مهترئاً لا يقوى على شق صدر الكلمات أو قَدَّ قميص الصمت العاجز المهترئ.
فماذا حدثَ لقلمي في عامي هذا ؟ لقد كانَ في ما مضى بارعاً في رسم ذلك الخط الرفيع بين الواقعية والكذب المقدس، وكان قادراً على خلق عوالم تتنفس في داخلي فأُحدثُها وتُحدثني. صحيح أنني كنتُ اضطر إلى أن أغير اسمها وأن أغيّر نهاياتها حتى لا يمتعض مني عالم لا يرحم الأنثى ولكنها كانتْ عالماً مريحاً للهروب من الواقع.
في هذا العام رأيتُ الجانب الخفي مني ومن إنسانيتي اولاً ومن انوثتي ثانياً، وأدركت أن صورة الانثى البهية في عالمنا هي في جوهرها آلة تضحية تُسعد من حولها وقد تفشل فشلاً ذريعاً في إسعاد نفسها إلا بمقدار ظل شمعة يترنح نورها لحرق الورق من تحته فيمنحها إشراقاً هو في جوهره احتراق.
لقد أدركت مؤخراً ان صينية البامية في الفرن الذي كان دوماً يأكل أصابعي ستحترق إذا تكلمَ قلمي ، لذا عليه أن يصمتْ فهو لم ولن يُطعم طفلاً يتضور جوعاً في غزة. لقد دخلت صراعاً بين هواياتي ومهامي الكثيرة فمارست الطبخ والتنظيف وغسل الأطباق وكي الملابس أكثر بكثير من القراءة والكتابة التي تعتبر في جوهرها تمرداً لذيذاً على واقع يزخر بالتحديات.
اما الأبجديات فقد اصبحتُ أراها كحبات من السكر تُرش على تمرد مكبوت يراني ويقيمني على أشياء لم تكن يوماً من اختياري بينما قد يحاسبني على أمور فُرِضتْ على نصف نساء الكوكب على أقل تقدير. هذا العالم الذي لا يرى ضنك إمرأة هو ذاته الذي يرى إنجازاتها ويغبطها عليها دون أن يدرك فداحة الثمن الذي دُفِعَتهُ فيها.
لقد تأكدتُ الآن أن الدنيا بلا قيمة لأن نوائب الدهر قد تنتزعُ من الإنسان أبسط مقومات إنسانيته. هذه الدنيا هي زخرف برّاق ، قد تبدو حقيقية وهي حقيقة ليست إلا واحة من سراب زائف نقضي عمرنا في لهاث محموم للوصول إليها لنكتشف بعد فوات الأوان انها خادعة وغير موجودة.
مع دخولي عاماً جديداً سقطتْ أقنعة كثيرة ، وذبلت ورودٌ كثيرة في حديقة الحقيقة. وفي النهاية ادركتُ كم كنتُ وحدي في أصعب محطات العمر وكم استهلكتني مشاعر منحتُها بلا مقابل للعابرين في حياتي في أوقات كنت حينها أناضل ضد الشعور بالاغتراب ، وادركتُ ايضاً انه من الغباء ان ازرعَ شجرة واحدة خارج حديقة عمري.
واخيراً، ورغم هذه العواصف العاتية، يحيا فينا الأمل كبذرة نتعهدها في دواخلنا وافئدتنا بعناية فائقة لعلها تنبتُ يوماً وتصارع عواصف الزيف وأعاصير الوجود. وفي النهاية لا يسعني إلا أن اقول كل عام وكل من خصَّني بلحظة من وقته ودفء مشاعره بألف خير ولكم مني كل الحُب، وكل الامتنان لكل كلمة تسللتْ إلى قلبي منكم لأنها زرعتْ فيه وردة أبدية العطر.
- – إيمان مرشد حمّاد