
نحو تحرير التربية من التوجيهي ، من الحبس الأحادي إلى التمكين الجماعي ، بقلم : نسيم قبها
لا يمثل امتحان الثانوية العامة (التوجيهي) في فلسطين، مجرد اختبار أكاديمي، بل هو بنية اجتماعية – تربوية مهيمنة تفرض اغتراباً تربوياً شاملاً عن الغايات الإنسانية الحقيقية للتعلم قبل التعليم. كمنقب حذر في جذور الممارسة التربوية هنا ، أرى أن إلغاء هذا الامتحان ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية لإنقاذ المنظومة من فشلها البنيوي العميق، مستنداً إلى مبررات نقدية جوهرية:
- الاغتراب التربوي : يحول التوجيهي العملية التعليمية من سعي إنساني نحو التنمية الشاملة (المعرفية، الوجدانية، النفسحركية) – وفقاً لتصنيف بلوم – إلى مجرد وسيلة لغاية خارجية مع كل أسف ، وهي النجاح المادي في الامتحان المادي . هنا يتحول الطالب من ذات فاعلة متعلمة إلى موضوع خاضع لآلية قياس مجرد وجامدة ، مما يفصله عن علائقية حب المعرفة والاستكشاف الجوهريين (اغتراب عن الذات وعن نشاط التعلم).
- المركزية الامتحانية وتفريغ المحتوى: يصبح المنهاج المدرسي رهيناً لـ “ما يُسأل عنه”. يؤدي هذا بالضرورة إلى تسطيح المعرفة، حيث يُختزل الفهم النقدي والتحليل الفلسفي (مثل مهارات التفكير المتمايز عند دي بونو) إلى حفظ نمطي واستظهار معلومات قابلة للتقنين والقياس الكمي. تذبل البيداغوجيا النقدية (على طريقة باولو فريري) لصالح بيداغوجيا الإملاء والحفظ .
- إعادة إنتاج اللامساواة الاجتماعية : يُظهر التوجيهي بوضوح آليات إعادة إنتاج الفروق الطبقية. قدرة الأسر الميسورة على توفير الدروس الخصوصية المكثفة – التي أصبحت صناعة موازية – تخلق تمييزاً بنيوياً ضد أبناء الطبقات الأقل حظاً ، خاصة في مرحلة ما بعد أكتوبر وما يعانيه المجتمع ماديا . هذا يتناقض جذرياً مع مبدأ العدالة التربوية الذي يجب أن يكون أساسياً في سياق نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه.
- العنف الرمزي – بورديو : يمارس التوجيهي شكلاً من العنف الرمزي عبر تصنيف الطلاب بشكل قاطع (ناجح/راسب، “علمي”/”أدبي” بمعايير ضيقة) يحدد مسارات حياتهم بصلابة. هذا التصنيف، المبني على أداء لحظة واحدة، يتجاهل التعددية الذكائية (جاردنر) والسياقات المختلفة للنمو والتعلم، ويحمل دلالات قسرية تنتهك أنسنة التعليم و كرامة المتعلم وتنوع إمكاناته.
5.القابلية للانهيار تحت الضغوط: النظام الهش أصلاً يفشل في مواجهة أي طارئ (كالحروب والحصار والكوارث والازمات والطوارىء). تعليق الامتحان أو اضطراب عقده – كما حدث ويحدث مراراً – يكشف عن هشاشته المفرطة وعدم مرونته، مما يخلق صدمة جماعية وظلماً مضاعفاً لجيل يعاني أصلاً من ويلات الاحتلال. هذا يتناقض مع مطلب المرونة التربوية الضروري في البيئة الفلسطينية.
البديل كأداة تنموية : نحو نموذج تحرري تراكمي
الإلغاء ليس فراغاً، بل بوابة لنموذج تقييم تكويني تراكمي يعيد المركزية للمتعلم ولعملية التعلم نفسها. تقييم قائم على:
- مشاريع تطبق المعرفة.
- ملاحظة مستمرة لنمو المهارات والتفكير.
- محافظ إنجاز (Portfolios) تعكس تطوراً شاملاً.
- تقييم ذاتي و تقييم أقران يعزز الوعي النقدي.
- مراعاة السياقات المجتمعية والنفسية.
فيما سبق ليست اقتراحات وثنية ، فيمكن تكسيرها ، ولأن التوجيهي، في فلسطين تحديداً، تجسيد لـ عقلية تربوية بالية تكرس الاغتراب وعدم المساواة وتفريغ التعليم من روحه الإنسانية والنقدية. فإن إلغاؤه ليس استسلاماً، بل هو فعل تحرري ضروري. إنه خطوة نحو تربية فاعلة متفاعلة ومنتجة ، تعيد الاعتبار للمتعلم ككائن متكامل، وتؤسس لعدالة تربوية حقيقية تكون رافداً أساسياً في صمود الشعب الفلسطيني وبناء مستقبله. آن الأوان لتحرير العقول من سجن الامتحان الواحد، والانطلاق نحو فضاءات التقييم الإنساني الشامل والمنصف.
- – نسيم قبها – باحث في الشأن التربوي – الإئتلاف التربوي الفلسطيني