
اصلاح حال بال الأطفال (2) بقلم : د. غسان عبد الله
مع التفشي السريع والواسع لحالات الجشع والحروب والارهاب العالمي والمحلي، وتعدد وتوالي الكوارث الطبيعية والأمراض المزمنة الفتاكة، مثل جائحة كورونا، وما تتركه هذه جميعها من انعكاسات سلبية من شأنها زيادة ا مصادر اضطرابات سيكولوجية على الانسان، فتنعكس على سلوك جميع فئات المجتمعات البشرية، بغض النظر عن الجنس،العمر، الخلفية الثقافية- التعليمية ،الاقتصادية والدينية. يؤثر مكان السكن على منسوب هذه الانعكاسات، فمثلا سكان المناطق المهمشة والتي تفتقر الى الخدمات الصحية والاجتماعية، يكون المنسوب أعلى مما هو على سكان المناطق التي تحظى بالخدمات اللازمة. لنا أن نقارن هنا حالة سكان المحافظات الجنوبية مع وضع حالة سكان المحافظات الشمالية، أو سكان مخيمي طولكرم ومخيم جنين،نجد فارقا كبيرا من حيث منسوب التأثير والسرعة في الاستجابة لخدمات العناية المتوفرة وان تشابهت في الأعراض ومصدر هذه الاضطرابات والتي منها ما هو قابل للتحول الى اضطراب ما بعد الصدمة/ات PTSD.
أكثر شريحة تتأثر بهذه الاضطرابات هم الأطفال،كونها شريحة مجتمعية هشة، ومما يزيد الطين بلّة، عدم الوعي المجتمعي الكافي حول اّلية التعامل مع الأطفال في مثل هذه الحالات كما سبق وشخصنا في مقالات سابقة تم نشرها.
ا ما سيتم التركيز عليه هنا، هو كيفية مساعدة الطفل للتخفيف عليه من اُثار هذه الصدمة/ الصدمات، وذلك من خلال توظيف رؤى مهنية تستخدم عالميا، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار اختلافات الخلفيات الثقافية.
تستند هذه الرؤى المقترحة ( هنا سيتم عرض رؤية واحدة كي يتم شرحها بالتفصيل بهدف تسهيل التطبيق)،على أسس سيكولوجية علمية،والتي منها ما يعرف بنهج التماهي/ التقمص Empathy .
يقصد بالتماهي/ التقمص،المحاكاة/التبني الذاتي(الدمج الداخلي) لدوافع وسمات الاّخر وتذويتها داخليا، بطريقة سيكولوجية،تتخذ بدايتها حالة اللاوعي والاحتذاء بسلوك الاّخر عبر التقليد وهنا تبدأ بلورة نمط القيم والثقافة المنشودة من قبل هذا الطفل وفق عمره وجنسه .
لضمان تأثير مستدام، نقترح تشكيل مجموعات من اليافعين المهتمين والتي قد نلحظ فيها نوعا من التفاوت في التذويت خاصة بين الذكور، والعمل معهم وتدريبهم في مجموعات، بهدف ايجاد أكبر قسط من الفضول لمعرفة المزيد عن الاخر، واستمطار الأفكار( العصف الذهني brain storming)) والمقترحات والرؤى .
يجني الطفل هنا الطلاقة اللفظية وتزداد ثروته اللغوية، ناهيك عن ممارسة مهارة الاصغاء النشط، الأمر الذي يستدرج قيم حريتي التفكيرfreedom of thought)) والتعبيرfreedom of expression وتذويت قيم الاختلاف والتعددية( diversity ) كنهج حياة، مما يعزّز نهج الحوار كأسلوب لحل الخلافات بدلا من اللجوء الى العنف أو الجدل العقيم،وهنا نحصل على الدرّة المفقودة لدى الكثير من الأطفال واليافعين وحتى الكبار من الجنسين: ألا وهي رفع منسوب تقدير الذات Self-esteem البلدوزر الذي يمكنك من ازاحة جميع العقبات التي تواجهها في مسيرتك.
هنا تتأتى فرص للتدخل المباشر من قبل المرشد/ة ومقدم/ة الخدمة ولا مانع من اشراك الوالدين أو أحدهما على الأقل،من أجل تخفيف حدة القلق لانعكاسات الصدمات هذه، حيث يتوفر مصدر اّمان ( وجود الأب – الأم)،ان لم يكن القضاء عليها،من خلال بدء مشاهدة تدني / تلاشي حالات الميل الى العنف والعدوانية بين أفراد المجموعة/ المجموعات المنخرطة في التدريب .
كما قد نشهد بدء نمو قدرات اليافعين المنخرطين في المجموعات، على التخيل والادراك العاطفي والاجتماعي، لما يجري من حوله/ا وهذا هو أحد متطلبات تنمية قدرات الطفل، ليس فقط الحس- حركية، بل وأيضا الاجتماعية والعاطفية من خلال توظيف الميل الى الاستكشاف والابداع، ولنا أن ندعم قولنا هذا بما قاله اّينشتاين” المعرفة ليست مؤشر ذكاء، ، بل يكمن مصدر الذكاء في القدرة على تطوير مهارة الخيال / التخيل والتي يقصد بها استطاعة الطفل بلورة صورا ذهنية غير موجودة في اواقع/ا الذي يعيشه- تعيشه، وما يواكبها من انفعالات وردات فعل متتالية ذات تأثير اّني/مستقبلي على سلوكه عبر مراحل نموه تطوره على كافة الأصعدة والمجالات : العاطفية ، العقلية ، الحس حركية و الجسمانية،( نمووجداني وجسماني )، قد يلحظها تدريجيا الوالدان، المرشد – مقدم الخدمة .
وعليه ، فالخيال يساعد على النمو المعرفي والعاطفي والاجتماعي عبر بلورة أفكار وحلول للتحديات التي تجابهه/ا، وقد يميل/تميل الى أسلوب التقليد في تطوير بعض المهارات الحياتية المطلوبة كلغة الحوار مع الاّخر من خلال استعمال لعبة جهاز التلفون الثابت/ النقّال – اللعبة-، ليظهر وكأنه يتحدث مع شخص اّخر في صلب الموضوع ومحاولة استنباط مقترحات منه/منها حيال هذا التحدي أو ذاك، وقد يروي حلما أو قصة مصطنعة يظهر قرينه فيها يواجه أزمة وبالتالي هو يبحث عن مخرج- مخارج عن تحد/ تحديات مصطنعة لشد انتباه الوالدين ، المرشد – مقدم الخدمة ( حدث مثل هذا في احدى الجلسات مع يافع ، حين ركّز على الطفل الأسير أحمد مناصرة ودوام تكرار لفظ ” بهمش و مش متذكر”.
قد يميل الطفل/ الأطفال الى التمثيل في اللعب مع حيوان أليف ” كما يفعل حفيدي باسل عند تخيله القطة السوداء) أو تغيير وضعية الكرسي– السيارة، اللعبة ، للاكتشاف أو تأكيد معرفة، أو تثبيت مهارة اكتسبها.
هنا من المتوقع أن يعود الطفل، لاظهار الميل الى التمرد والعنف والعدوانية ان لم يحقق مبتغاه، في مثل هذه الحالة، علينا ضبط أعصابنا وتكثيف جهودنا دون اللجوء الى العنف ( بكل أنماطه )،مع ضرورة دوام التذكر بأننا لا نسعى الى عالم مثالي أفلاطوني ، مدركين دوما أن دوام القلق والتوتر ، يلازمهما أحيانا بعض الألم، جرّاء عدم التيقن من مستقبل اّمن ومستقر، مثل هذه الوضع يؤدي الى الميل نحو التمرد والعدوانية هذه.
مما لا شك فيه، أن هناك تحديات كثيرة عند تطبيق هذه الرؤية المقترحة، غالبيتها حصيلة:-
⦁ شح الوعي وثقافة الصحة النفسية، لدرجة أن البعض يعتبر السلوكيات الناجمة عن اضطراب ما بعد الصدمة، بمثابة مس شيطاني قد يمكن ازالته والتخلص منه من خلال عمل تعويذة يستخدما الشخص الذي يعاني من الاضطراب السلوكي الناجم عن الصدمة/ الصدمات المتتالية.
⦁ ثمة تحد اّخر يكمن في وجود بيئة تسمح بتنامي التفكير التشعبي، وبالتالي يجد كل من الشخص الذي يعاني من الاضطراب / الاضطرابات السلوكية وأيضا المعالج الحاجة الفورية الى بذل المزيد من الجهود وطاقة زائدة مما يؤدي الى الشعور بالأرق والارهاق لدى مقدم الخدمة والشخص الذي يعاني من هذه الاضطرابات، الأمر الذي سيزيد من حالات التوتر والقلق في بيئة قطبي العمل، رغم كل المحاولات والجهود القصوى التي يبذلها المعالج/ة .
⦁ مع ذلك، علينا التسليم بأن ( لن يصيبكم الا ما كتب الله لكم)، فهو شكل من أشكال الابتلاء للانسان المؤمن .
ولنا لقاء قادم في طرح رؤية ثانية.
- – د. غسان عبد الله – القدس
إقرأ أيضاً : اضطراب حال البال (1) فقدان الذاكرة أم دوام النسيان، بقلم : د. غسان عبد الله