2:11 مساءً / 8 أكتوبر، 2024
آخر الاخبار

نبوءة نيتشه والتقدم الرقمي ، بقلم : د. نعيمة عبد الجواد

نعيمة عبد الجواد

نبوءة نيتشه والتقدم الرقمي ، بقلم : د. نعيمة عبد الجواد


يمرُّ العالم في الوقت الحالي بمرحلة من التقدُّم المذهل، والتي من شأنها إحداث تغييرات جذرية في شكل ومضمون الحياة على كوكب الأرض حاليًا ومستقبلًا، من ناحية وضع ودور الإنسان في خضم هذا التقدُّم، وكذلك من حيث تعامله مع ما حوله من موجودات؛ تمامًا كما فعلت الثورة الصناعية الأولى بالإنسانية. فلقد كان وقع الثورة الصناعية الأولى على الإنسان في نهاية القرن الثامن عشر (1784م) مريعًا، لدرجة جعلت الكثيرين يجنحون إلى القيام باحتجاجات ضد التكنولوجيا المطروحة، والإقدام على تحطيمها لكونها تلغي وجود الإنسان. ومن المثير للدهشة أن هذا المشهد عينه يتكرر حاليًا، وإن كان بصورة أكثر شراسة؛ حيث أن الثورة الرقمية كوَّنت ما قد يُطلق عليه مجازًا ثورة صناعية رابعة تندمج فيها العلوم السيبرانية مع الفيزيقية؛ علمًا أن الإنسان يقع في مقدِّمة الأجسام الفيزيقية التي لسوف تندمج مع العالم السيبراني الرقمي.


والمثير حقًّا للدهشة في الأمر، معرفة أن هذا التقدُّم المُذهل كان يسير وفق مخطط ذو خطى وئيدة، وإن كانت حثيثة التطبيق، وليس مجرَّد وليدًا لصيرورة الأحداث التي نجم عنها تقدُّم علمي وفق لصدفة غير محسوبة؛ فالغرض من التقدُّم الرقمي الذي نشهده هو إحداث تحوُّل غير مسبوق في تاريخ البشرية. ومن الجدير بالذكر أن القائمون على تطوير التقدُّم الرقمي، والذي أفرز الذَّكاء الاصطناعي، قد أصابتهم الصدمة من جرَّاء التطوُّر الذين تشاركوا في تنفيذه وأصبحوا غير قادرين على استيعاب عواقبه.


فلقد عبَّر “إيلون ماسك” Elon Musk صاحب شركة “سبيس إكس” Space X عن ذلك بقوله: “لسوف نعيش في عالم غريب”، بل ودعى إلى تأجيل طرح الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته تجاريًاعلى الأقل لفترة ستَّة أشهر؛ من أجل تدريب الكثيرين عليه وإيجاد الاحتياطات اللازمة لتكبيل عواقبه الغير محمودة؛ لكيلا تخرج عن السيطرة. أمَّا “جيفري هينتون” Geoffrey Hinton، والذي يعد الأب الروحي لتطوير الذكاء الاصطناعي، فلقد استقال من منصبه في شركة جوجل Google، واصفًا الذكاء الاصطناعي ب”المخيف”، مما دفعه أن يحاول أن يتنصَّل من العواقب خشية أن تلعنه البشرية على ما فعل بها من دمار، كما ينال صنيع الفيزيائي الأمريكي “روبرت أوبنهايمر” Robert Oppenheimer من سباب ولعنات لكونه من أشرف على برامج تطوير السلاح النووي واستخدام القنبلة الذريَّة في الحرب العالمية الثانية. وبالنسبة ل”جيفري هينتون”، الذكاء الاصطناعي، والذي يعد الوليد المدلل للتقدُّم الرقمي، بمثابة قنبلة ذريَّة أخرى تم إلقائها على العالم؛ لمحو جميع مظاهر العالم القديم، ووضع أسس عالم جديد برواسي غير مسبوقة.


هذا النظام الجديد المخيف جعل إيطاليا تحجب استخدام التشات جي بي تي ChatGPT على داخل إطار الدولة، وحثَّ المفوَّضية الأوروبية أن تستصدر بيانًا بمنع استخدام الذكاء الاصطناعي لأنه يهدد مصير الأمم وشعوبها؛ حيث أنه يقضي على الغالبية العظمى من الوظائف وأن لاستخدامه عواقب غير محمودة.


التقدُّم الرقمي أفرز الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته وأفضى إلى تحديث نسخه المطروحة في وقت وجيز جدًا؛ فلقد تمَّ طرح التحديث الرابع للتشات جي بي تي ChatGPT في أقل من أربعة أشهر فقط، ولسوف تكون المفاجأة الأكبر هي طرح شركة جوجل، بإمكانياتها الكبرى لامتلاكها حدود الشبكة العنكبوتية، نسختها من الذكاء الاصطناعي تحت اسم “جوجل بارد” Google Bard. ويؤكِّد هذا الوضع الملتبس أن التقدُّم قادم، لا محالة، بطريقة تشبه الطوفان العظيم، وأن من سينجو هو ذاك من يستطيع الصعود على متن سفينة نوح، أو بالأحرى من تتولَّد لديه المقدرة أن يسيطر على طوفان التقدُّم قبل أن يمحي وجوده.


ومن المذهل أن الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” Friedrich Nietzsche (1844-1900م) قد تنبأ بهذا الوضع، وحاول أن يرسي القواعد الأخلاقية لنظام العالم الجديد بشكل براجماتي. ولقد عاصر “نيتشه” نفسه بوادر قاطرة التقدُّم الطاغي عندما لمس ما يحدث من تغييرات اجتماعية بعد الثورة الصناعية الأولى (1784) والثورة الصناعية الثانية (1870)، وحاول أن ينبَّه أن القواعد الأخلاقية لسوف تتغيَّر جذريًا، كما حدث في السابق – وهذا كما ذكر في كتابه “علم أصول الأخلاق” On the Genealogy of Morality (1887) مؤكِّدًا أن أخلاقيات العالم القديم التي تشرَّبنا بها يجب أن يصيبها التطوير وإلا لن يجد الإنسان مكانًا ملائمًا لنفسه، ومن ثمَّ يسقط في هوَّة العدمية ويكون مصيره الزوال. وتوكيد “نيتشه” لذاك الوضع هو تمهيد للتبؤ بظهور جيل من ال Übermensch، وهو المصطلح الذي يعني حرفيًا “من يفوق الإنسان”، أو كما ترجمه البعض “الإنسان الآلة” أو”السوبرمان” أو”الجبابرة”. وبالتدقيق في المعنى الذي يقصده “نيتشه” من صياغة ذاك المصطلح، يلاحظ أنه يقصد ظهور إنسان بمميِّزات وقدرات متفوِّقة ومتطوِّرة تؤهله أن يكون متميزًا في عالم يقصد أن يقسِّم البشرية إلى أسياد وعبيد، أو – بمعنى آخر، إلى راعي وقطيع، والمقصود من القطيع هنا من ليس لديه القدرة على أن يسوس ويكون سيِّد قراره.


ولقد بلور “نيتشه” مفهوم “الإنسان الآلة” (أو”السوبرمان”) في كتابه “هكذا تكلَّم زارادشت” Thus Spoke Zarathustra والذي صدر في أربعة أجزاء ما بين (1883-1885م)، ووصفه، كما كتب عليه كعنوان فرعي: “كتاب للجميع وليس لأي فرد”، ونفس ذاك العنوان صادم وملغز لدرجة أن المترجمين يحتارون حتى الآن في كيفية ترجمته أو تفسيره، فليس من الواضح ما إذا كان المقصود أن الكتاب موجَّه للمجتمع أم الكتاب يعن بالقلَّة القليلة التي لسوف تفهم مغزاه، أم هو كتاب لم يعتني “نيتشه” بمن سوف يوجهه له؛ لأن القادر على إدراك معناه الحقيقي هو ذاك من تحرر من الوهم وأصبح على أعتاب التحوُّل إلى “الإنسان الآلة” أو”السوبرمان”.


ومن الجدير بالذكر أن كتاب “هكذا تكلَّم زارادشت” لم يحظَّ بالاهتمام المطلوب بينما كان “نيتشه” على قيد الحياة، تمامًا كما حدث مع “زارادشت” عندما سخر منه العامة قائلين: “لنترك لك الإنسان الآلة يا صاح”، فتركهم “زارادشت”، لإدراكه أن الناس غير مستعدَّة بعد لسماع تلك الحقائق، قائلًا: “لست الفمّ الذي يصلح لهذه الآذان.” ويؤكِّد “نيتشه” أن “زارادشت” علم في تلك اللحظة أن تلك الحقائق لا يجب قولها للقطيع، بل للقلَّة القليلة المستعدة للخروج من القطيع؛ فالتطور لم ينتهي بعد، والإنسان الأعلى لسوف يتواجد عاجلًا أم آجلًا.


لقد كان كتاب “نيتشه” بمثابة وثيقة فريدة تم استغلالها لأقصى حد من قبل النازيين إبَّان الحرب العالمية الثانية؛ فكان “هتلر” يحرص على توزيعه على الجنود حتى يصمدوا ويستبسلوا في المعارك. وعلى نفس الأساس، استبسل العلماء الألمان في التطوير والاختراعات والاكتشافات في جميع المجالات العلمية والتكنولوجية، بل والفكرية أيضًا، رغبة منهم في الوصول لمرتبة “الإنسان الآلة” أو”السوبرمان”. ويكفي القول أن بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، قسَّم الحلفاء الاكتشافات العلمية والتكنولوجية الألمانية كغنائم، ومعها توارثوا نبوءة “نيتشه” على لسان “زارادشت.”


والخطير في التقدُّم التكنولوجي الرقمي وعلى رأسه الذكاء الاصطناعي أنه لسوف يسرع من وتيرة تقسيم البشرية إلى راعي يكون “إنسان آلة” وقطيع مصيره العدمية والفناء، وذلك من خلال طرح تحدِّي غير مسبوق من التقدُّم التكنولوجي من يتبِّعه ويكون مجرَّد مستخدم، لسوف ينمحي وجوده؛ لأنه لسوف يصير مجرَّد تابع متلقِّي ولسوف يصل إلى مرحلة لن يستطيع بعدها استخدام العقل البشري بالطريقة الصحيحة، علمًا بأن نفس ذاك العقل قد استطاع من قبل تطوير الآلات والتحكَّم فيها. وعلى هذا من يجاهد ضد هذا التيار العتيد ويستطيع ركب موجة التقدُّم ويتحكَّم في مسارها، هو من سيصبح السيِّد أو القائد في النظام العالمي الجديد، أو بمعنى آخر لسوف يرتقي ويصبح “إنسان آلة” (سوبرمان).

شاهد أيضاً

تقرير : تحقيق جنائي مرتقب بشأن التدخل الإسرائيلي لعرقلة عمل المحكمة الجنائية

شفا – تدرس النيابة العامة في هولندا طلبا بفتح قضية جنائية ضد مسؤولين كبار في …